يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) إلى الكون والعلة ؛ لأنهم مستضعفون في قبضة الألوهية ، مستغرقون في قاموس القدمية.
قال أبو سعيد الخرّاز : الذين أسرهم البلاء ، واستولى عليهم حتى صار البلاء لهم وطنا بعد ما كان الحول لهم وطنا ، ثم أفنى عنهم شاهد البلاء علم البلاء ، وردّ عليهم على الإنسانية بإثبات علم الحق ، وذلك حين ردت إليهم صفاتهم بعد محو آثارهم فإذ ذاك (لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً).
قوله تعالى : (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً) أي : من هاجر من أوطان نفسه إلى فضاء ولاية التفريد ، وأتلف مهجته في طريق محبة الله ، ولم يبق له مسكن يسكن قلبه فيه من العرش إلى الثرى ، ويجد في الأرض المشرقة بنور وجه الله سبحانه مواطن الأنس ، ومواقف القدس وسعة أنوار قربته وسنا وصلته يستغني به عن كل موطن ومرقد ، وعن كل مألوف سوى الله ، وفي أرض القدم وفضاء الأزل للعارفين المهاجرين منهم إليه مراغم وطنات الصفات ، ومشارب سواقي الجلال والجمال في بحار الذات وسعة كنوز أزل الآزال ومشاهدة أبد الآباد.
وأيضا : من هاجر لله في سبيل الله ، وصار غريب الله في بلاد الله مستوحشا مما دون الله ، يجد في أكناف أطراف الأرض مراغم صحبة أولياء الله التي هناك سعة أنوار مشاهدة الله.
قال الأستاذ : من هاجر في الله بما سوى الله ، وصحح قصده إلى الله وجد فسحة في عقوق الكرم ومقيلا في ذوي القبول ورحبا وسعة في كنف القرب.
قوله تعالى : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ) أي : من يخرج من طبيعته وهوى نفسه وحوله وقوته وإشاراته وعباراته وعلمه ورسمه إلى الله في طلب مشاهدته وإلى الرسول في متابعته بنعت المحبة ، ويدركه في تضاعيف السير بعض الامتحان ، ويقع في منزل الفتوة بعد المجاهدة ، وقد وقع أجر الوصلة له ؛ لأن الله تعالى يجازيه بصدق مقدم الأول قبل أن يهاجر عما دون الله تعالى ، وقبل أن يخرج عن جميع مراداته وهواه متبعا لأوامر الله وما يوصله إلى رضوانه.
قوله تعالى : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) هذه رخصة لأهل المشاهدة ، الذين استغرقوا في بحار المعرفة والمحبة ، فإذا غلب عليهم سلطان الوجد وحان وقت الخدمة سهل عليهم أحكام الفريضة بترخيص الله إياهم ، وهم إنس الله الذين يجوز لهم التوسع والرخص ، وعلى صورة الظاهر الضعفاء رخصة من عجزهم في ديوان الإنسانية عن حمل وارد الشرع بهيئاته.