أحدها ـ قول أبي مسلم : إن المنافقين كانوا يمتنعون من بذل الصدقات ، وأن قوما من المنافقين تركوا النفاق ، وآمنوا ظاهرا وباطنا إيمانا حقيقيا ، فأراد الله تعالى أن يميزهم عن المنافقين ، فأمر بتقديم الصدقة على النجوى ، ليتميز هؤلاء الذين آمنوا إيمانا حقيقيّا عمن بقي على نفاقه الأصليّ. وإذا كان هذا التكليف لأجل هذه المصلحة المقدرة بذلك الوقت ، لا جرم بقدر هذا التكليف. بذلك الوقت قال الرازيّ : وحاصل قول أبي مسلم أن ذلك التكليف كان مقدرا بغاية مخصوصة ، فوجب انتهاؤه عند الانتهاء إلى الغاية المخصوصة ، فلا يكون هذا نسخا وهذا الكلام حسن ، ما به بأس. انتهى.
ثانيها ـ قول بعضهم : إن شبهة مدعي النسخ ذهابهم إلى أن الأمر بتقديم الصدقة للوجوب. وتأكد ذلك بقوله بعده : (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وقوله : (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) فإن ذلك لا يقال إلا فيما يفقده يزول وجوبه. والجواب : أن لا قاطع في كون الأمر للوجوب ، بل الظاهر أنه للندب : ويدل عليه أمور :
الأول ـ أنه تعالى قال : (ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ) وهذا إنما يستعمل في التطوع لا في الفرض.
والثاني ـ أنه لو كان ذلك واجبا لما أزيل وجوبه بكلام متصل به ، وهو (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا) إلى آخر الآية.
والثالث ـ أن قوله : (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ...) إلخ معناه إن لم تفعلوا ما ندبتم إليه من تقديم الصدقات قبل مناجاة الرسول ، والحال أن الله قد رجع إليكم بالتخفيف والتسهيل فيما شرعه لكم ، فلم يعاملكم كما كان يعامل الأمم السابقة ولم يعنتكم بشيء مما أوجبه عليكم ، فلذا ندبكم إلى هذا الأمر ، ولم يجعله عليكم فرضا ، كما هي سنته في معاملتكم بالرأفة والرحمة ، فأقيموا الصلاة ... إلخ. فقوله (وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) قد ورد هنا بمعنى الرجوع إلى التخفيف والتسهيل على هذه الأمة ، والعدول عن معاملتها كسابقيها ، لا بمعنى التجاوز عن السيئات وغفران الذنوب. وقد ورد بذلك المعنى أيضا في آية أخرى في سورة المزمل ، وفي قوله تعالى : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ) [المزمل : ٢٠] ، أي رجع إليكم بالتخفيف ، ورفع عنكم ما يشق عليكم. وليس معناه في هاتين الآيتين العفو عن الذنوب ، إذ لا ذنب هنا صدر منهم.