المسكونة. وكان ابتداؤها في مصر في الجيل الرابع ، على أثر اشتهار أحد الرهبان وممارسته التقشفات ، بسبب الاضطهاد الذي أصابه ، وآثر لأجله الطواف في البراري ، فرارا من أيادي مضطهديه. ثم عكف على الوحدة. وعاش بها ، وذلك في الجيل الثالث. ثم امتدت من مصر إلى فلسطين وسورية إلى أكثر الجهات. توهما بأن رسم المسيحية الكاملة لا يوجد إلا في العيشة الضيقة القشفة ، فدعا ذلك كثيرين إلى ترك المعيشة المألوفة بالاعتزال في الأديرة. مع أن ذلك الوهم باطل ، ومضادّ للكتب المقدسة. ولما كثر عدد البرهان كثرة هائلة ، ونحم عن حالهم أضرار عظيمة للمجتمع ، أصدر كثير من الملوك أوامر بمنع هذه العادة. إلا أنها لم تنجح كثيرا.
وأما بدعة العزوبة والتبتل ، فنشأت من حضّ بولس عليها ، وترغيبهم فيها ، كما أفصح عنه كلامه في آخر الفصل السابع من رسالته الأولى.
وقد قال صاحب (ريحانة النفوس) أيضا : إن هذه العادة لا يوجد لها برهان في الكتاب المقدس. وإنما دخلت بالتدريج ، لما خامرهم من توهم أفضلية البتولية ، وظنهم أنها أزكى من الزواج ، ومدح من جاء على أثرهم لها مدحا بالغا النهاية في الإطراء ، فحسبوها من الواجبات الأدبية المأمور بها ، ووضع نظام وقوانين لوجوبها في الجيل الثالث ، حتى قاومتها كنائس أخرى ، ورفضت بدعة البتولية وقوانينها ، لمغايرتها للطبيعة ، ومضادتها لنص الكتب الإلهية ، واستقرائها أديرة الراهبات ، بأنها في بعض الأماكن كانت بيوتا للفواحش والفساد.
وفي كتاب (البراهين الإنجيلية ضد الأباطيل الباباوية) إن ذم الزيجة خطأ لأنها عمل الأفضل ، لأن الرسول أخبر بأن الزواج خير من التوقد بنار الشهوة ، وإن الأكثرين من رسل المسيح كانوا ذوي نساء ، تجول معهم. ومن المعلوم أن الطبيعة البشرية تغصب الإنسان على استيفاء حقها ، ومن العدل أن تستوفيه ، وليس بمحرم عليها استيفاؤه حسب الشريعة ، ولا استطاعة لجميع البشر على حفظ البتولية. ولذلك نرى كثيرين من الأساقفة والقسوس والشمامسة ، لا بل الباباوات المدعين بالعصمة ، قد تكردسوا في هوة الزنا ، لعدم تحصنهم بالزواج الشرعي. هذا وإن ذات النذر بالامتناع عن الزواج هو غير عادل ، لتضمنه سلب حقوق الطبيعة ، وكونه يضع الإنسان تحت خطر السقوط في الزنا ، ويفتح بابا واسعا لدخول الشيطان. وكأن الراهب ينذر على نفسه مقاومة أمر الله ، ويعدم وجود ألوف ألوف ، ربما كانت تتولد من ذريته ، فكأنه قد قتلها. وهذا النذر لم تأمر به الشريعة الإنجيلية قط. فالطريقة الرهبانية هي اختراع شيطاني قبيح ، لم يكن له رسم في الكتب المقدسة ، ولا في أجيال الكنيسة الأولى ،