مع ذلك أدب الحضرة ، وحسن السؤال فقال : (وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ) ولم يقل : لا تخلف وعدك بإنجاء أهلي ، وإنما قال ذلك ففهمه من الأهل ذوي القرابة الصورية ، والرحم النسبية ، وغفل ، لفرط التأسف على ابنه ، عن استثنائه تعالى بقوله : (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) ولم يتحقق أن ابنه هو الذي سبق عليه القول ، فاستعطف ربه بالاسترحام ، وعرض بقوله : (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) إلى أن العالم العادل والحكيم لا يخلف وعده.
القول في تأويل قوله تعالى :
(قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) (٤٦)
(قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) أي الموعود إنجاؤهم ، بل من المستثنين لكفرهم ، أو ليس منهم أصلا ، لأن مدار الأهلية هو القرابة الدينية ، ولا علاقة بين المؤمن والكافر.
قال القاشاني : أي أن أهلك في الحقيقة هو الذي بينك وبينه القرابة الدينية ، واللحمة المعنوية ، والاتصال الحقيقي لا الصوري. كما قال أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه : ألا وإن وليّ محمد ، من أطاع الله ، وإن بعدت لحمته. ألا وإن عدوّ محمد ، من عصى الله ، وإن قربت لحمته.
(إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) بيّن انتفاء كونه من أهله بأنه غير صالح ، تنبيها على أن أهله هم الصلحاء ، أهل دينه وشريعته ، وإنه لتماديه في الفساد والغي ، كأن نفسه عمل غير صالح ، وتلويحا بأن سبب النجاة ليس إلا الصلاح ، لا قرابته منك بحسب الصورة فمن لا صلاح له ، لا نجاة له. وهذا سر إيثار (غَيْرُ صالِحٍ) على (عمل فاسد).
وقد قرأ يعقوب والكسائي (عمل) بلفظ الماضي ، والباقون بلفظ المصدر ، بجعله نفس العمل ، مبالغة ، كما بيّنا.
(فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أي لا تلتمس مني ملتمسا أو التماسا لا تعلم أصواب هو أم غير صواب؟ حتى تقف على كنهه. قالوا : والنهي إنما هو عن سؤال ما لا حاجة له إليه أصلا ، إما لأنه لا يهم ، أو لأنه قامت القرائن على حاله ، كما هنا ، لا عن السؤال للاسترشاد.