فأخبرهم خبره ، فأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه ليلا ، فهتف به أبو نائلة وكان حديث عهد بعرس فوثب من ملحفته فقالت امرأته : أسمع صوتا يقطر منه الدم ، وإنك رجل محارب ، وإن صاحب الحرب (١) لا ينزل في مثل هذه الساعة فكلّمهم من فوق الحصن ، فقال : إنما هو أخي محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة وإن هؤلاء لو وجدوني نائما ما أيقظوني ، وإن الكريم إذا دعي إلى طعنة بليل أجاب ، فنزل إليهم فتحدثوا معه ساعة ثم قالوا : يا ابن الأشرف هل لك إلى أن نتماشى إلى شعب العجوز (٢) نتحدث فيه بقية ليلتنا هذه؟ قال : إن شئتم؟ فخرجوا يتماشون ، وكان أبو نائلة قال لأصحابه : إني نائل شعره فأشمّه فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فدونكم [عدو الله](٣) فاضربوه ، ثم إنه شام يده في فود رأسه ثم شمّ يده ، فقال : ما رأيت كالليلة طيب عروس قط ، قال : إنه طيب أم فلان يعني امرأته ، ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها حتى اطمأن ثم مشى ساعة فعاد لمثلها ثم أخذ بفودي رأسه حتى استمكن ثم قال : اضربوا عدوّ الله فاختلفت عليه أسيافهم فلم تغن شيئا ، قال محمد بن مسلمة : فذكرت مغولا (٤) في سيفي فأخذته ، وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حصن إلا أوقدت عليه نار ، قال فوضعته في ثندوته ثم تحاملت عليه حتى بلغ (٥) عانته ، ووقع عدو الله وقد أصيب الحارث بن أوس بجرح في رأسه أصابه بعض أسيافنا ، قال : فخرجنا وقد أبطأ علينا صاحبنا الحارث بن أوس ونزفه الدم ، ثم وقفنا له ساعة ثم أتانا يتبع آثارنا فاحتملناه فجئنا به رسول الله صلىاللهعليهوسلم آخر الليل وهو قائم يصلي فسلمنا عليه فخرج إلينا فأخبرناه بقتل كعب وجئنا برأسه إليه ، وتفل على جرح صاحبنا ، فرجعنا إلى أهلنا فأصبحنا وقد خافت يهود وقعتنا بعدو الله ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه» ، فوثب محيصة بن مسعود على سفينة رجل من تجار اليهود كان يلابسهم ويبايعهم فقتله ، وكان حويصة بن مسعود إذ ذاك لم يسلم وكان أسن من محيصة فلما قتله ، جعل حويصة يضربه ويقول : أي عدو الله قتلته أما والله لربّ شحم في بطنك من ماله ، قال محيصة : والله لو أمرني بقتلك من أمرني بقتله لضربت عنقك ، قال : لو أمرك محمد بقتلي لقتلتني؟ قال : نعم ، والله إنّ دينا بلغ بك هذا لعجب؟! فأسلم حويصة.
وأنزل الله تعالى في شأن كعب : (لَتُبْلَوُنَ) لتختبرنّ ، واللام للتأكيد ، وفيه معنى القسم ، والنون لتأكيد القسم (فِي أَمْوالِكُمْ) بالجوائح والعاهات والخسران (وَأَنْفُسِكُمْ) بالأمراض ، وقيل : بمصائب الأقارب والعشائر ، قال عطاء : هم المهاجرون أخذ المشركون أموالهم ورباعهم وعذّبوهم ، وقال الحسن : هو ما فرض عليهم من أموالهم وأنفسهم من الحقوق ، كالصلاة والصيام والحج والجهاد والزكاة ، (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) يعني : اليهود والنصارى ، (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) ، يعني : مشركي العرب ، (أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا) على أذاهم (وَتَتَّقُوا) ، الله ، (فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) ، [أي](٦) من حق الأمور وخيرها ، وقال عطاء : من حقيقة الإيمان.
(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨))
__________________
(١) في المطبوع «المحرب».
(٢) تصحف في المطبوع «العجود» والعجوز : موضع قرب المدينة.
(٣) زيادة عن المخطوط.
(٤) في المخطوط «معولا» وهو خطأ. والمغول : حديدة دقيقة لها حد ماض.
(٥) في المطبوع «بلغت».
(٦) زيادة عن المخطوط.