المؤمنين كانوا يصافون (١) المنافقين فنهاهم الله تعالى عن ذلك ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ) ، أي : أولياء أصفياء من غير أهل ملّتكم ، وبطانة الرجل : خاصّته ، تشبيها ببطانة الثوب التي تلي بطنه ، لأنهم يستبطنون أمره ويطلعون منه على ما لا يطلع عليه غيرهم ، ثم بيّن العلة في النهي عن مباطنتهم ، فقال جلّ ذكره : (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) ، أي : لا يقصرون ولا يتركون جهدهم فيما يورثكم الشرّ والفساد ، [والخبال : الشرّ والفساد](٢) ، ونصب (خَبالاً) على المفعول الثاني ، لأن «يألو» يتعدّى إلى مفعولين ، وقيل : بنزع الخافض ، أي بالخبال ، كما يقال : أوجعته ضربا ، (وَدُّوا ما عَنِتُّمْ) ، أي : يودّون ما يشق عليكم من الضّر والشر والهلاك ، والعنت : المشقة ، (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ) ، أي : البغض ، معناه ظهرت أمارة العداوة ، (مِنْ أَفْواهِهِمْ) ، بالشتيمة والوقيعة في المسلمين ، وقيل : باطلاع المشركين على أسرار المسلمين ، (وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ) ، من العداوة والغيظ ، (أَكْبَرُ) أعظم ، (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ).
(ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠))
. (ها أَنْتُمْ) ها تنبيه وأنتم كناية للمخاطبين من الذكور ، (أُولاءِ) اسم للمشار إليه ، يريد : أنتم أيها المؤمنون ، (تُحِبُّونَهُمْ) ، أي : تحبون هؤلاء اليهود الذين نهيتكم عن مباطنتهم للأسباب التي بينكم من القرابة والرضاع والمصاهرة ، (وَلا يُحِبُّونَكُمْ) لما بينكم من مخالفة الدين ، وقال مقاتل : هم المنافقون يحبهم المؤمنون لما أظهروا من الإيمان ، ولا يعلمون ما في قلوبهم ، (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ) ، يعني : بالكتب كلها وهم لا يؤمنون بكتابكم ، (وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا) ، وكان بعضهم مع بعض (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ) ، يعني : أطراف الأصابع واحدتها أنملة بضم الميم وفتحها ، (مِنَ الْغَيْظِ) لما يرون من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم ، [وعضّ الأنامل عبارة عن شدّة الغيظ وهذا من مجاز الأمثال](٣) ، وإن لم يكن ثم عض ، (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) ، أي : ابقوا إلى الممات بغيظكم ، (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) ، أي : بما في القلوب من خير وشر.
وقوله تعالى : (إِنْ تَمْسَسْكُمْ) ، أي : تصبكم أيها المؤمنون (حَسَنَةٌ) بظهوركم على عدوكم وغنيمة تنالونها منهم ، وتتابع الناس في الدخول في دينكم ، وخصب في معايشكم (تَسُؤْهُمْ) ، تحزنهم ، (وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ) ، مساءة بإخفاق سرية لكم أو إصابة عدوّ منكم ، واختلاف يكون بينكم أو جدب أو نكبة ، (يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا) على أذاهم (وَتَتَّقُوا) تخافوا ربكم (لا يَضُرُّكُمْ) ، أي : لا ينقصكم ، (كَيْدُهُمْ شَيْئاً) ، قرأ (٤) ابن كثير ونافع وأهل البصرة : (لا يَضُرُّكُمْ) بكسر الضاد خفيفة (٥) ، يقال : ضار يضير ضيرا ، وهو جزم على جواب الجزاء ، وقرأ الباقون بضم الضاد وتشديد الراء من ضرّ يضرّ ضرا ، مثل ردّ يردّ ردا وفي رفعه وجهان ، أحدهما : أنه أراد الجزم ، وأصله يضرركم أدغمت
__________________
(١) في المخطوط «يصادقون» والمثبت عن المطبوع و ـ ط والطبري ٧٦٧٧ فما بعد.
(٢) سقط عن المخطوط.
(٣) زيد في المطبوع و ـ ط.
(٤) زيد في المطبوع وحده «ابن عامر».
(٥) أي بسكون الراء.