قحفه الخمر ، فأرسل الله رجلا من الدّبر وهي الزنابير فحمت عاصما فلم يقدروا عليه ، فسمّي حميّ الدّبر فقالوا : دعوه حتى نمسي فتذهب عنه [الدبر] فنأخذه ، فجاءت سحابة سوداء وأمطرت مطرا كالعزالي (١) فبعث الله الوادي غديرا فاحتمل عاصما فذهب به إلى الجنّة ، وحمل خمسين من المشركين إلى النار ، وكان عاصم قد أعطى الله تعالى عهدا أن لا يمسه مشرك ولا يمس مشركا أبدا ، فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول حين بلغه أن الدّبر منعته : عجبا لحفظ الله العبد المؤمن ، كان عاصم نذر أن لا يمسه مشرك ولا يمس مشركا أبدا فمنعه الله بعد وفاته كما امتنع عاصم في حياته ، وأسر المشركون خبيب بن عدي الأنصاري وزيد بن الدّثنّة فذهبوا بهما إلى مكّة ، فأمّا خبيب فابتاعه بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف ليقتلوه بأبيهم ، وكان خبيب هو الذي قتل الحارث يوم بدر ، فلبث خبيب عندهم أسيرا ، حتى أجمعوا على قتله فاستعار من بعض بنات الحارث موسى ليستحدّ بها فأعارته ، فدرج بنيّ لها وهي غافلة فما راع المرأة إلا خبيب قد أجلس الصبي على فخذه والموسى بيده ، فصاحت المرأة ، فقال خبيب : أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك إن الغدر ليس من شأننا ، فقالت المرأة بعد : والله ما رأيت أسيرا خيرا من خبيب والله لقد وجدته يوما يأكل قطفا من عنب في يده وإنه لموثق بالحديد وما بمكة من ثمرة إن كان إلا رزقا رزقه الله خبيبا ، ثم إنهم خرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحلّ وأرادوا أن يصلبوه ، فقال لهم خبيب : دعوني أصلي ركعتين فتركوه ، فكان خبيب هو أول من سنّ لكل مسلم قتل صبرا الصّلاة ، فركع ركعتين ، ثم قال : لو لا أن يحسبوا أن ما بي جزع لزدت ، اللهمّ أحصهم عددا واقتلهم بددا ولا تبق منهم أحدا ، ثم أنشأ يقول :
فلست أبالي حين أقتل مسلما |
|
على أيّ شق كان في الله مصرعي (١) |
وذلك في ذات الإله وإن يشأ |
|
يبارك على أوصال شلو (٢) ممزّع |
فصلبوه حيا فقال : اللهمّ إنك تعلم أنه ليس أحد حولي يبلغ سلامي رسولك فأبلغه سلامي ، ثم قام أبو سروعة (٢) عقبة بن الحارث فقتله ، ويقال : كان رجل من المشركين ، يقال له سلامان أبو ميسرة معه رمح فوضعه بين ثديّ خبيب فقال له خبيب : اتّق الله فما زاده ذلك إلا عتوا فطعنه فأنفذه [من ظهره](٣) ، وذلك قوله عزوجل : (وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) ، يعني : سلامان ، وأما زيد بن الدّثنّة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف ، فبعثه مع مولى له يسمى نسطاس إلى التنعيم ليقتله بأبيه ، واجتمع [معه] رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب ، فقال له أبو سفيان حين قدم ليقتل : أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمدا عندنا الآن بمكانك نضرب عنقه ، وأنت في أهلك؟ فقال : والله ما أحب أن محمدا صلىاللهعليهوسلم الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي ، فقال أبو سفيان : ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحبّ أصحاب محمّد محمدا ، ثم قتله نسطاس ، فلما بلغ النبيّ صلىاللهعليهوسلم هذا الخبر قال لأصحابه : «أيّكم ينزل خبيبا عن خشبته وله الجنّة» ، فقال الزّبير : أنا يا رسول الله وصاحبي المقداد بن الأسود ، فخرجا يمشيان بالليل ويكمنان بالنهار ، حتى أتيا التنعيم ليلا وإذا حول الخشبة أربعون رجلا من المشركين نيام نشاوى ، فأنزلاه فإذا هو رطب ينثني لم يتغيّر منه شيء بعد أربعين يوما
__________________
(١) العزالي : مصب الماء من الرواية وغيرها.
(٢) الشلو : العضو ، والجسد من كل شيء ، وكل مسلوخ أكل منه شيء وبقيت منه بقية.
__________________
(١) في المخطوط «مضجعي».
(٢) في المطبوع «سرعة» وفي المخطوط «مشروعة» والمثبت عن ـ ط ـ.
(٣) زيادة من المخطوط.