وتمييز وفطنة في
كون ذلك العالم الروحاني النير الكامل في ذاته وظهورهم معا ، ولا إدراك له في كيفية وجودهم ، فهجمت به
فكرته ، وقررت عنده فطنته ، أن لذلك العالم مبدعا أبدعه ، وموجدا أوجده بمشيئته
وقدرته ، وإنّه لا يدرك ، ولا يحاط به ، ولا يشبه شيئا من صنعته ، وأنّه يعجز عن
إدراكه ومعرفته ، إلّا بوجود ما أوجده من عدم لا أصل له فنفى عن الجميع من عالمه
الإلهية ، وأثبتها للمتعالي سبحانه المحق الذي لا شبه له ولا ند ولا ضد ، ولا مثل
ولا مثيل ، ولا شكل. فنطق بالشهادة مفصحا ، وأعلن بها مصرحا ، كما جاء في الذكر
الحكيم في قوله : (شَهِدَ
اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً
بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) . فشهد له بالإلهية ، والعزّة ، والحكمة.
وقد جاء عن الشخص
الفاضل صاحب الرسائل في الرسالة الجامعة قال : وأمّا الواحد الموصوف بالجلالة والعظمة المشار إليه
بالوجود. وأنّه مبدأ كل موجود ، يقبل فيض الجود وإليه تنتهي الحدود ، فهو العقل
الأول ومبدعه يجل عن صفة الواصفين ، ونعت الناعتين ، وإنّما يقال : هو لا إله إلّا
هو إيمانا وتسليما.
فهذا القول هو
إثبات التوحيد ، ولذلك صار الأصل المعتمد عليه في كل شريعة ودين ، وذلك أن العقل
الأول نفى عن ذاته الإلهية ، وأثبتها لمبدعه فقال : لا إله إلّا هو ، فوحد مبدعه
وهو عقل ، بمعنى إثبات الوحدة المحضة بذلك ؛ لأن اتصال التأييد به متواتر لا يفنى
ولا يزول ، بل متصل دائم أبدا ، وذلك بسبقه ، ولذلك قال : (ما
عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) .
__________________