وتمييز وفطنة في كون ذلك العالم الروحاني النير الكامل في ذاته (١) وظهورهم معا ، ولا إدراك له في كيفية وجودهم ، فهجمت به فكرته ، وقررت عنده فطنته ، أن لذلك العالم مبدعا أبدعه ، وموجدا أوجده بمشيئته وقدرته ، وإنّه لا يدرك ، ولا يحاط به ، ولا يشبه شيئا من صنعته ، وأنّه يعجز عن إدراكه ومعرفته ، إلّا بوجود ما أوجده من عدم لا أصل له فنفى عن الجميع من عالمه الإلهية ، وأثبتها للمتعالي سبحانه المحق الذي لا شبه له ولا ند ولا ضد ، ولا مثل ولا مثيل ، ولا شكل. فنطق بالشهادة مفصحا ، وأعلن بها مصرحا ، كما جاء في الذكر الحكيم في قوله : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢). فشهد له بالإلهية ، والعزّة ، والحكمة.
وقد جاء عن الشخص الفاضل صاحب الرسائل في الرسالة الجامعة (٣) قال : وأمّا الواحد الموصوف بالجلالة والعظمة المشار إليه بالوجود. وأنّه مبدأ كل موجود ، يقبل فيض الجود وإليه تنتهي الحدود ، فهو العقل الأول ومبدعه يجل عن صفة الواصفين ، ونعت الناعتين ، وإنّما يقال : هو لا إله إلّا هو إيمانا وتسليما.
فهذا القول هو إثبات التوحيد ، ولذلك صار الأصل المعتمد عليه في كل شريعة ودين ، وذلك أن العقل الأول نفى عن ذاته الإلهية ، وأثبتها لمبدعه فقال : لا إله إلّا هو ، فوحد مبدعه وهو عقل ، بمعنى إثبات الوحدة المحضة بذلك ؛ لأن اتصال التأييد به متواتر لا يفنى ولا يزول ، بل متصل دائم أبدا ، وذلك بسبقه (٤) ، ولذلك قال : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) (٥).
__________________
(١) ذاته : سقطت في ج وط.
(٢) سورة ٣ / ١٨.
(٣) النص مأخوذ من رسالة الجامعة الورقة ١٨٠ من النسخة الخطية الموجودة في مكتبتنا الخاصة.
(٤) لأنه السابق في الوجود ، والموجود الأول.
(٥) سورة ١٦ / ٩٦.