الإدراك من المدرك إنّما يكون بالقيام تجاه المطلوب علمه ، وطلب ما ينعته به منه. فالعقول تكع عن ذلك ، وتعجز وتتحير فيه ، وتقصر مثل قصور أبصارنا عن مقابلة عين الشمس ، لا لنقصان فيها عن الإدراك ، بل لكون الشمس فيما عليه هويتها على أمر تخطف الأبصار إذا قابلتها ، فتعجز وتبرق ، فتنقلب عنها خاسئة وهي حسيرة.
وقال في موضع ثان (١) : الله تعالى متكبرا بقدسانيته عن جميع النعوت والصفات المدركة بالعقل والحس ، فلا شيء في وجه من الوجوه يشاركه ، ولا معنى من المعاني المدلول عليها بالألفاظ يعتوره ، وهو المتقدس الذي عجزت العقول عن نعته ، وأظلمت المقاصد في السلوك نحو شيء يضاف إليه ، فيليق به تعالى وتكبر عمّا يقول الظالمون علوا كبيرا.
وقال أيضا : ولمّا كان الباري لا محسوسا (٢) ولا معقولا ، استحال أن يقال عليه ما يقال عليهما ، فهو من حيث هو هو لا يدرك أصلا لسموه على مخترعاته ، سمو المحيط الذي لا ينال ، وعلوه عليها علو المتعالي الذي ليس في الاستطاعة أن تصطاد معرفته بشيء فيقال ذلك بأنّه تعالى وراء الكمال ، وفوق الجلال ، وكون العقول مبهورة تحت ثقل العجزة ، فسبحان من هذه العزّة عزته ، ولا إله إلّا هو.
وعنه وقد سأله بعض تلامذته (٣) عن إجماع الخلق بأن الله سبحانه موحّد ، والمخلوق موحّد ، فكيف يكون ذلك من جهة الفاعل والمفعول؟ فقال : إن الله تعالى يجل عن أن يكون فعل الموحدين. وقد قال النبي
__________________
(١) ثان : ثاني في ط تالي في ج.
(٢) أي لا يدرك إلا بالإقرار بأن لجميع العوالم مبدعا أبدعهم تعجز العقول عن إدراكه.
(٣) يريد بعض المستجيبين الذين هم في دور الاستفادة والاستمداد بالعلوم العرفانية الباطنية.