ولما كان العلم جامعا لحقائق الموجودات بأسرها ، حاكما عليها ، وهي به تعرف ، ومن القول الذي يتفرع منه توصف ، وهو المرتب لها مراتبها ، ومعطيها فضائلها ، اللائق بكل واحد منها ، بسبقها إلى ما اتحد بها من قواها ، وكونها في أماكنها ، وأنّه الفاصل الذي به يفصل الحق من الباطل ، والصدق من الكذب ، وبه يتحد (١) العقل بالفضيلة الأولة ، ويختص بالسبق ، والمنزلة على النفس اللاحقة به ، وأنها دونه ، وكذلك القول به على النفس لمعرفة ما دونها ، وصفة ما صدر عنها ، فالبرهان الصادق قد دل على أنّه الشخص الجامع لجميع فضائل جواهر الموجودات من البسائط والمركبات ، ذوات الأنفس الروحانيات ، والصور الجسمانيات ، ولذلك وصف الله تعالى به نفسه ، فقال : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) (٢).
فلذلك قلنا : إن العلم ماهية العقل ، وكيفية (٣) اتحاده من أمر الله عزوجل ، وان الله عزوجل ألقاه من أمره إلى من اصطفاه من عباده وخلقه واستصفاه ليدلوا به عليه ، ويدعوا خلقه إليه ، وأنّه مبني على مباني متقنة ، ظاهرة من ألسنة فصيحة ، وأدوات صحيحة. فقد صح بأن العلم هو الكلمة ، الذي هو كلمة الله ، وهو الأمر الذي أشار إليه أنّه فوق العقل (٤) ، ودون الباري وأنّه روح القدس ، والقدس هو العقل والروح ، وهو العلم. قال الله تعالى : (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) (٥). وهو العلم الذي علمه العقل الأول الذي قام به فاعلا ، وأنّه ذات العقل ، وصورته ، وكماله الثاني. فهذا ما جاء عن الحدود أن العلم هو روح القدس ، وأنّه أمر الله تعالى ، وأنّه كمال ثان لمن تعلق به. وأنّه الحبل
__________________
(١) يتحد : يتحيز في ج وط.
(٢) سورة : ٦ / ٧٣ و ١٣ / ٩ و ٣٢ / ٦.
(٣) وكيفية : وكسفية في ج.
(٤) العقل : سقطت في ج وط.
(٥) سورة : ٤٠ / ١٥.