وبما أنّ الأقوام الضالة والجاهلة كانت دائماً تثير هذا الإعتراض على الأنبياء وهو أنّكم بشر؟! ولماذا لا تُكلّف الملائكة لهذا الأمر؟ وبما أنّ الناس في الجاهلية كانوا يثيرون نفس الإعتراض بالنسبة إلى الرسول صلىاللهعليهوآله ودعوته العامة ، فإنّ القرآن الكريم يجيب مرّة ثانية على هذا الإعتراض فيقول : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى). هؤلاء الرسل هم كباقي الناس يعيشون في المدن والقرى ، ويتجوّلون بين الناس ويشعرون بآلامهم وإحتياجاتهم ومشاكلهم.
فالوصف هنا ب (مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى) تشير إلى أنّ أنبياء الله لم ينهضوا من بين سكنة الصحراء لأنّ سكّان البادية يتّصفون بالجهل وعدم المعرفة وقلوبهم قاسية ويمتازون بقلّة معلوماتهم عن الحياة ومتطلباتها.
ولكن الرسول من أهل مكة التي تعتبر مدينة كبيرة نسبيّاً.
ثم يبيّن القرآن الكريم : إذا ما أراد هؤلاء أن يعلموا عاقبة مخالفتهم لدعوتك التي هي الدعوة إلى الله فإنّ عليهم أن يسيروا ليروا آثار السابقين : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ).
إنّ السير والتجوال في الأرض لمشاهدة آثار الماضين وخراب دورهم ومدنهم بسبب العذاب الإلهي ، أفضل درس لهم ، درس حي وملموس للجميع ، (وَلَدَارُ الْأَخِرَةِ خَيْرٌ لّلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ). لماذا؟ لأنّ الدنيا دار مليئة بالمصائب والآلام وغير باقية ، أمّا الآخرة فدار خالدة وخالية من الآلام والعذاب.
(حَتَّى إِذَا اسْتَيَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجّىَ مَن نَّشَاءُ).
تشير هذه الآية إلى أدقّ وأصعب لحظة في حياة الأنبياء فتقول : إنّ الأنبياء يواجهون دائماً مقاومة عنيفة من قبل أقوامهم وطواغيت زمانهم حتى يصل الحال بالأنبياء إلى اليأس إلى حدّ يظنّون أنّ أتباعهم المؤمنين القليلين قد كذبوا عليهم وتركوهم وحدهم في مسيرتهم في الدعوة إلى الحقّ ، وفي هذه الأثناء حيث إنقطع أملهم في كل شيء أتاهم نصرنا ، وفي نهايتها تشير إلى عاقبة المجرمين (وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ).
فهذه سنّة الله في الذين أصرّوا على أعمالهم وأغلقوا باب الهداية على أنفسهم ، فهم وبعد إتمام الحجة عليهم ينالهم العذاب الإلهي فلا تستطيع أي قوة أن تردّه.
وآخر آية من هذه السورة ذات محتوى شامل وجامع لكل الأبحاث التي ذكرناها في هذه