عاد المبعوث من قبل الملك إلى يوسف مرّة ثانية إلى الملك ، وأخبره بما طلبه يوسف مع ما كان من إبائه وعلوّ همّته ، لذا عظم يوسف في نفس الملك وبادر مسرعاً إلى إحضار النسوة اللاتي شاركن في الحادثة ، والتفت إليهن و (قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ). يجب أن تقلن الحق ... هل إرتكب يوسف خطيئة أو ذنباً؟
فتيقّظ فجأةً الوجدان النائم في نفوسهن ، وأجبنه جميعاً بكلام واحد ، متفق على طهارته و (قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ).
أمّا امرأة العزيز التي كانت حاضرة أيضاً ، أحسّت بأنّ الوقت قد حان لأن تنزّه يوسف وأن تعوّض عن تبكيت وجدانها وحيائها وذنبها بشهادتها القاطعة في حقه ، وخاصه أنّها رأت كرم يوسف المنقطع النظير من خلال رسالته إلى الملك ، إذ لم يعرّض فيها بالطعن في شخصيتها وكان كلامه عامّاً ومغلقاً تحت عنوان «نسوة مصر».
فكأنّما حدث إنفجار في داخلها فجأةً وصرخت و (قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ النَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ).
ثم واصلت امرأة العزيز كلامها (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) لأنّي عرفت بعد هذه المدة الطويلة وما عندي من التجارب (أَنَّ اللهَ لَايَهْدِى كَيْدَ الْخَائِنِينَ).
وتواصل امرأة العزيز القول : (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِى إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبّى) وبحفظه وإعانته نبقى مصونين ، وأنا أرجو أن يغفر لي ربّي هذا الذنب (إِنَّ رَبّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
فامرأة العزيز التي تدعى «زليخا» أو «راعيل» وإن ابتُليت في عملها بأشدّ الهزائم ، لكن هذه الهزيمة في مسير الذنب كانت سبباً لأن تنتبه ويتيقّظ وجدانها النائم ، وأن تندم على ما فات من عملها ... والتفتت إلى ساحة الله.
السعداء هم اولئك الذين يصنعون من الهزائم إنتصاراً ، ومن سوء الحظّ حظّاً حسناً ، ومن أخطائهم طريقاً صحيحاً للحياة.
(وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) (٥٧)