وطبيعي أنّ مثل هذا الحادث من العسير تصديقه في البداية ، أي إنّ شاباً يافعاً غير متزوج لا يُعدّ آثماً ، ولكن امرأة متزوجة ذات مكانة اجتماعية ـ ظاهراً ـ آثمة! فلذلك كانت أصابع الإتهام تشير إلى يوسف أكثر من امرأة العزيز.
ولكن حيث إنّ الله حامي الصالحين والمخلصين فلا يرضى أن يحترق هذا الشاب المجاهد بشعلة الإتهام ، لذلك يقول القرآن في هذا الصدد : (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) * (وَإِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ).
أمّا عزيز مصر فقد قبل هذا الحكم الدقيق ، وتحيّر في قميص يوسف ذاهلاً : (فَلَمَّا رَءَا قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ).
في هذه الحال ، ولخوف عزيز مصر من إنتشار خبر هذا الحادث المؤسف على الملأ ، فتسقط منزلته وكرامته في مصر رأى أنّ من الصلاح كتمان القضية ، فالتفت إلى يوسف وقال : (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذَا). أي : اكتم هذا الأمر ولا تخبر به أحداً ... ثم التفت إلى امرأته وقال : (وَاسْتَغْفِرِى لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِينَ).
الشاهد الذي ختم «ملفّ يوسف وامرأة العزيز» بسرعة ، هو أحد أقارب امرأة العزيز ، وكلمة «من أهلها» دليل على ذلك. وعلى القاعدة فهو رجل حكيم وعارف ذكي ويقال : إنّ هذا الرجل كان من مشاوري عزيز مصر وكان معه.
حماية الله في الأزمات : الدرس الكبير الآخر الذي نتعلّمه من قصة يوسف ، هو حماية الله ورعايته للإنسان الأكيدة في أشدّ الحالات ، وبمقتضى قوله : (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقُهُ مِن حَيْثُ لَايَحْتَسِب). فمن جهة كان يوسف لا يُصدّق أبداً أنّ نافذة من الأمل ستفتح له ، ويكون قدّ القميص سنداً للطهارة والبراءة ، ذلك القميص الذي يصنع الحوادث ، فيوماً يفضح إخوة يوسف لأنّهم جاؤوا أباهم وهو غير ممزّق ، ويوماً يفضح امرأة العزيز لأنّه قدّ من دُبر ، ويوماً آخر يهب البصر والنور ليعقوب ، وريحه المعروف يسافر مع نسيم الصباح من مصر إلى أرض كنعان ويبشّر العجوز «الكنعاني» بقدوم موكب البشير.
إنّ لله ألطافاً خفية لا يسبر غورها أحد ، وحين يهبّ نسيم هذه الألطاف تتغير الأسباب والمسببات بشكل لا يمكن حتى لأذكى الأفراد أن يتنبّأ عنها.