الفصل الأخير من المجابهة مع الظالمين : هذه الآيات جسّدت آخر مرحلة من المواجهة بين بني إسرائيل والفراعنة وبيّنت مصير هؤلاء في عبارات قصيرة ، فتقول أوّلاً : إنّنا جاوزنا ببني إسرائيل البحر ـ وهو نهر النيل العظيم أطلق عليه اسم البحر لعظمته ـ أثناء مواجهتهم للفراعنة ، وعندما كانوا تحت ضغط ومطاردة هؤلاء : (وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إِسْرَاءِيلَ الْبَحْرَ). إلّاأنّ فرعون وجنوده طاردوا هؤلاء من أجل القضاء على بني إسرائيل : (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا). «البغي» : يعني الظلم ، «والعدو» : بمعنى التعدي ، أي إنّ هؤلاء إنّما طاردوهم وتعقبوهم لغرض الظلم والتعدي عليهم ، أي على بني إسرائيل.
جملة «فأتبعهم» توحي بأنّ فرعون وجنوده قد تتبعوا بني إسرائيل طوعاً.
فإنّ هذه الأحداث قد استمرت حتى أوشك فرعون على الغرق ، وأصبح كالقشة تتقاذفه الأمواج وتلهو به ، فعنذاك زالت حجب الغرور والجهل من أمام عينه ، وسطع نور التوحيد الفطري وصدع بالإيمان : (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَءَامَنتُ أَنَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا الَّذِىءَامَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَاءِيلَ). فلست مؤمناً بقلبي فقط ، بل إنّي من المسلمين عملياً : (وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ).
ولمّا تحققت تنبؤات موسى عليهالسلام الواحدة تلو الاخرى وأدرك فرعون صدق هذا النبي الكبير أكثر فأكثر وشاهد قدرته وقوته ، اضطر إلى إظهار الإيمان على أمل أن ينقذه ربّ بني إسرائيل كما أنجاهم من هذه الأمواج المتلاطمة ولذلك يقول : آمنت أنّه لا إله إلّاالذي آمنت به بنو إسرائيل!
إلّا أنّ من البديهي أنّ مثل هذا الإيمان الذي يتجلّى عند نزول البلاء ونشوب أظفار الموت ، إيمان اضطراري يتشبث به كل جان ومجرم ومذنب وليست له أيّة قيمة ، أو يكون دليلاً على حسن نيّته أو صدق قوله ، ولهذا فإنّ الله سبحانه خاطبه فقال : (ءَالنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ).
لكن (فَالْيَوْمَ نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَءَايَةً). آية للحكام المستكبرين ولكلّ الظالمين والمفسدين ، وآية للفئات المستضعفة.
والمراد من البدن هنا ، جسد فرعون الذي فارقته الروح ، لأنّ عظمة فرعون في أفكار الناس في ذلك المحيط بلغت حدّاً بحيث إنّ الكثير لولا ذلك لم يكن يصدق أن فرعون يمكن أن يغرق ، وكان من الممكن أن تنسج الأساطير والخرافات الكاذبة حول نجاة وحياة فرعون بعد هذه الحادثة ، لذلك ألقى الله سبحانه جسده خارج الماء.