واستظلم ما كان قد استصفاه من الحياة الدنيا وسكنت في نفسه سورة الهوى بغلبة الجزء الروحانيّ على الجسماني ، وذاق طعم ماء فرات الحياة الحقيقية فلم يصبر على الملح الأجاج وباشر قلبه خطرات اليقين بجريعات شربها من الماء المعين ، فعلم أنه كان أكمن في سرب من الأرض ، فاستلمع ضوء الكواكب ليلا وظنه نهارا ، فخرج فإذا هو ببريّة فيها ماء زعاق وأنواع من الحشائش كالخمخم والجرجير ونحوها ، فظنها رياحين وثمارا ، فحبس بما وجد عن ضياء الشمس وألوان الطيب والفواكه ، فعزم على رحيل الأوبة وغشيته وحشة الغربة ، فانتقى ما استطاب واستحلى. ثم سار وخلى حتى إذا أضاء نور صبح عين اليقين ، وحان وقت طلوع شمس الوحدة ، رأى جنة تحيّر فيها بصره ودهش في وصفها عقله ، وكان ما كان مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. فإذا أفاق وقد طلعت الشمس ، وجد فيها ألافا وأحبابا وعرف أنه كان له مثوى ومآبا ، ورجع إليه الأنس ، ونزل محلة القدس ، بدار القرار في جوار الملك الغفّار ، وأشرقت عليه سبحات وجهه الكريم ، وحلّ بقلبه روح الرضا العميم ، وذلك معنى قوله : (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) إلى قوله : (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) ، فالجنّات جنّات الأفعال ، والأزواج أصناف روحانيات عالم القدس ، والرضوان جنّات الصفات.
[١٦ ـ ١٨] (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧) شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨))
(الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا) بأنوار أفعالك وصفاتك (فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) أي : ذنوب وجوداتنا بذاتك (وَقِنا عَذابَ النَّارِ) أي : نار الهجران ووجود البقية (الصَّابِرِينَ) على غصص المجاهدة والرياضة (وَالصَّادِقِينَ) في المحبة والإرادة (وَالْقانِتِينَ) في السلوك إليه وفيه (وَالْمُنْفِقِينَ) ما عداه من أموالهم وأفعالهم وصفاتهم ونفوسهم وذواتهم (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ) عن ذنوب تلويناتهم وبقياتهم في أسحار أيام التجليات النورية عند طلوع طوالع الأنوار ، وظهور تباشير صبح يوم القيامة الكبرى بالأفق الأعلى ، فأجابهم وقت طلوع شمس الذات من مغرب وجودهم ، فلم يبق مغربا بقوله (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) طلع الوجه الباقي ، فشهد بذاته في مقام الجمع على وحدانيته ، إذ لم يبق شاهد ولا مشهود غيره. ثم رجع إلى مقام التفصيل فشهد بنفسه مع غيره على وحدانيته في ذلك المشهد فقال : (وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ) أي : مقيما للعدل في تفاصيل مظاهره ، وصور كثرتها الذي هو ظلّ الوحدة في غير الجمع بإعطاء كلّ ذي حقّ بحسب استعداده واستحقاقه حقّه من جوده وكماله وتجليه فيه على