فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ) القوى الروحانية الذين هم أهل الله وجنوده (تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى) هي جنود النفس وأعوان الشياطين محجوبة عن الحقّ. ترى الفئة الأولى ، مع قلّة عددهم ، مثليهم عند التقائهما في معركة البدن لتأيد الفئة الأولى بنور الله وتوفيقه وخذلان الفئة الثانية وذلهم وعجزهم وضعفهم وانقطاعهم عن عالم الأيد والقدرة. فغلبت الأولى الثانية وقهروهم بتأييد الله ونصره ، وصرفوا أموالهم التي هي مدركاتهم ومعلوماتهم في سبيل معرفة الله وتوحيده (وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ) من أهل عنايته المستعدّين للقائه (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً) أي : اعتبارا أو أمرا يعتبر به في الوصول إلى الحقيقة للمستبصرين الذين انفتحت أعين بصائرهم واكتحلت بنور الإيقان العلميّ من أهل الطريقة يعتبرون به أحوالهم في النهاية.
[١٤ ـ ١٥] (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤) قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥))
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) لأن الإنسان مركب من العالم العلويّ والسفليّ ، ومن نشأته وولادته تحجبت فطرته وخمدت نار غريزته وانطفأ نور بصيرته بالغشاوات الطبيعية والغواشي البدنية ، والماء الأجاج من اللذّات الحسيّة ، والرياح العواصف من الشهوات الحيوانية ، فبقي مهجورا من الحق في أوطان الغربة وديار الظلمة يسار به ، مبلوّا بأنواع النصب والتعب ، فإذا هو بشعشعة نور من التميز ولمعان برق من عالم العقل ، وداع ينادينه من الهوى والشيطان ، فتبعه فصادف منزلا نزها ، وروضة أنيقة ، فيها ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين ، فاستوطنه وشكر سعيه ورضيه مسكنا وقال :
عند الصباح يحمد القوم السرى
والداعي قد هيئ له القرى ، فذلك حبّ الشهوات ، أي : المشتهيات المذكورة وتزيينها له وهو تمتيع له بحسب ما فيه من العالم السفليّ ، وكمال لحياته حجب به من تمتيع الحياة الأخرى وكمالها ، بحسب ما فيه من العالم العلويّ ، ولم يتنبه على أنها أبهى وألذّ وأصفى مع ذلك وأبقى ، وهو معنى قوله : (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) فإن أدركه التوفيق الإلهيّ والتنبيه السريّ ، وقارنه الإنباء النبوي كما قال : (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ) انبعث من باطنه شوق وعشق لحركة العلويّ إلى مركزه ، واشتعلت ناره التي قد خمدت ، وتتتابع عليه لوامع الأنوار الإلهية وطوالع الإشراقات القدسية ، فاستنار نور بصيرته الذي قد انطفأ ، ورقّت الحجب التي منعت فطرته عن طلب المقرّ والمأوى ، وتنغص عيشه الذي هو فيه فتكدّر ما هو عليه ،