والملكات الفاضلة والتمرّن فيها والتنقل في المقامات قبل وصوله إلى مقام القلب. وطوافه بالبيت إشارة إلى وصوله إلى مقام القلب وسلوكه فيه مع التلوين ، ودخوله إشارة إلى تمكنه واستقامته فيه. ورفعه في زمان الطوفان إلى السماء إشارة إلى احتجاب الناس بغلبة الهوى وطوفان الجهل في زمان نوح عليهالسلام عن مقام القلب. وبقاؤه في السماء الرابعة ، أي : البيت المعمور الذي هو قلب العالم ونزوله مرة أخرى في زمان إبراهيم عليهالسلام إشارة إلى اهتداء الناس في زمانه إلى مقام القلب بهدايته. ورفع إبراهيم قواعده وجعله ذا باب واحد إشارة إلى تلقي القلب بسلوكه عليهالسلام من مقامه إلى مقام الروح الذي هو السر وارتفاع مراتبه ووصوله إلى مقام التوحيد ، إذ هو أوّل من ظهر عليه التوحيد الذاتيّ كما قال عليهالسلام : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩)) (١). والحجر الأسود إشارة إلى الروح. وتمخض أبي قبيس وانشقاقه عنه إشارة إلى ظهوره بالرياضة وتحرّك آلات البدن باستعمالها بالتفكر والتعبد في طلب ظهوره ، ولهذا قيل : خبئت فيه ، يعني : احتجبت بالبدن. واسوداده بملامسة النساء الحيض إشارة إلى اختفائه وتكدّره بغلبة القوى النفسانية على القلب واستيلائها عليه وتسويدها الوجه النورانيّ الذي يلي الروح منه. وكذا إسماعيل أيضا كان من الموحدين لعطفه عليه في رفع قواعد البيت.
(رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) أي : لا تكلنا إلى أنفسنا فنسلم بأنفسنا بل بك وبجعلك (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً) هو محمد صلىاللهعليهوسلم ، ولهذا قال عليهالسلام : «أنا دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى ، ورؤيا أمي» وقد رأت في المنام أن نورا خرج منها فأضاءت لها قصور الشام.
[١٣٠ ـ ١٣٤] (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢) أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤))
(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ) أي : ملّة التوحيد (إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) إلا من احتجب عن نور العقل بالكلية وبقي في مقام ظلمة نفسه. أي : سفه نفسا على التمييز أو في نفسه على انتزاع الخافض (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ) أي : من كان من المحبوبين المرادين بالسابقة الأزلية فاخترناه حالة الفناء في التوحيد (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ) أي : حالة البقاء بعد الفناء من أهل
__________________
(١) سورة الأنعام ، الآية : ٧٩.