[٧٨] (قالَ هذا فِراقُ
بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ
صَبْراً (٧٨))
(هذا فِراقُ بَيْنِي
وَبَيْنِكَ) أي : هذا هو مفارقة مقامي ومقامك ومباينتهما والفرق بين
حالي وحالك ، فإن عمارة النفس بالرياضة والتخلق بالأخلاق الحميدة ليست لتوقع
الثواب والأجر وإلا فليست فضائل ولا كمالات لأن الفضيلة هي التخلق بالأخلاق
الإلهية بحيث تصدر عن صاحبها الأفعال المقصودة لذاتها لا لغرض. وما كان لغرض فهو
حجاب ورذيلة لا فضيلة والمقصود هو طرح الحجاب وانكشاف غطاء صفات النفس ، والبروز
إلى عالم النور لتلقي المعاني الغيبية بل الاتصاف بالصفات الإلهية بل التحقق بالله
بعد الفناء فيه لا الثواب كما زعمت (سَأُنَبِّئُكَ
بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) أي : لما اطمأنت النفس واستقرّت القوى أمكنك قبول المعاني
وتلقي الغيب الذي نهيتك عن السؤال عنه حتى أحدث لك منه ذكرا فسأذكر لك وأنبئك
بتأويل هذه الأمور إذا استعددت لقبول المعاني والمعارف.
[٧٩ ـ ٨١] (أَمَّا
السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ
أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩)
وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما
طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ
زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (٨١))
(أَمَّا السَّفِينَةُ
فَكانَتْ لِمَساكِينَ) في بحر الهيولى ، أي : القوى البدنية من الحواس الظاهرة
والقوى الطبيعية النباتية ، وإنما سماها مساكين لدوام سكونها وملازمتها لتراب
البدن وضعفها عن ممانعة القلب في السلوك والاستيلاء عليه كسائر القوى الحيوانية.
وحكي أنهم كانوا عشرة أخوة خمسة منهم زمنى وخمسة يعملون في البحر ، وذلك إشارة إلى
الحواس الظاهرة والباطنة (فَأَرَدْتُ أَنْ
أَعِيبَها) بالرياضة لئلا يأخذها ملك النفس الأمّارة غصبا وهو الملك
الذي كان وراءهم أي : قدّامهم (يَأْخُذُ كُلَّ
سَفِينَةٍ غَصْباً) بالاستيلاء عليها واستعمالها في أهوائه ومطالبه (وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ) اللذان هما الروح والطبيعة الجسمانية (مُؤْمِنَيْنِ) مقرين بالتوحيد لانقيادهما في سلك طاعة لله وامتثالهما
لأمر الله وإذعانهما لما أراد الله منهما (فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما) أي : يغشيهما (طُغْياناً) عليهما بظهوره بالأنائية عند شهود الروح (وَكُفْراً) لنعمتهما بعقوقه وسوء صنيعه أو كفرا بالحجاب فيفسد عليهما
أمرهما ودينهما ويبطل عبوديتهما لله (فَأَرَدْنا أَنْ
يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً) كما بدّلهما بالنفس المطمئنة التي هي خير منه زكاة ، أي :
طهارة ونقاء (وَأَقْرَبَ رُحْماً) تعطفا ورحمة لكونها أعطف على الروح والبدن وأنفع لهما ،
وأكثر شفقة. ويجوز أن يكون المراد بالأبوين الجدّ والأب ، فكان كناية عن الروح
والقلب. وكونه أقرب رحما أنسب لهما وأشدّ تعطفا.
[٨٢] (وَأَمَّا
الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ
كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا
أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ
أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٨٢))