ترك عبادة الصنم المجعول كما هو عادة بعضهم أو صنم نفسه ، كما قال فرعون اللعين : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) (١) و (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) (٢).
(هؤُلاءِ قَوْمُنَا) إشارة إلى النفس الأمارة وقواها ، لأن لكل قوم إلها تعبده وهو مطلوبها ومرادها ، والنفس تعبد الهوى كقوله : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ) (٣) ، أو إلى أهل زمان كل من خرج منهم داعيا إلى الله ، إذ كل من عكف على شيء يهواه فقد عبده. (لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ) أي : على عبادتهم وإلهيتهم وتأثيرهم ووجودهم (بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ) أي : حجة بيّنة دليل على فساد التقليد وتبكيت بأن إقامة الحجة على إلهية غير الله وتأثيره ووجوده محال ، كما قال : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) (٤) أي : أسماء بلا مسميات لكونها ليست بشيء.
[١٦] (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً (١٦))
(وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ) أي : فارقتم نفوسكم وقواها بالتجرّد (وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) من مراداتها وأهوائها (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ) إلى البدن لاستعمال الآلات البدنية في الاستكمال بالعلوم والأعمال ، وانخزلوا فيه منكسرين ، مرتاضين ، كأنهم ميتون بترك الحركات النفسانية والنزوات البهيمية والسطوات السبعية ، أي : موتوا موتا إراديا (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) حياة حقيقة بالعلم والمعرفة (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) كما لا ينتفع به بظهور الفضائل وطلوع أنوار التجليات ، فتلتذون بالمشاهدات وتتمتعون بالكمالات كما قال تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) (٥) ، وقال عليهالسلام في أبي بكر رضي الله عنه : «من أراد أن ينظر ميتا يمشي على وجه الأرض فلينظر أبا بكر»، أي : ميتا عن نفسه يمشي بالله. أو وإذا اعتزلتم قومكم ومعبوداتهم غير الله من مطالبهم المختلفة ، ومقاصدهم المتشتتة ، وأهوائهم المتفننة ، وأصنامهم المتخذة ، فأووا إلى كهوف أبدانكم وامتنعوا عن فضول الحركات والخروج في أثر الشهوات ، واعكفوا على الرياضات ، (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) (٦) زيادة كمال وتقوية ونصرة بالأمداد الملكوتية ، والتأييدات القدسية ،
__________________
(١) سورة القصص ، الآية : ٣٨.
(٢) سورة النازعات ، الآية : ٢٤.
(٣) سورة الجاثية ، الآية : ٢٣.
(٤) سورة النجم ، الآية : ٢٣.
(٥) سورة الأنعام ، الآية : ١٢٢.
(٦) سورة الكهف ، الآية : ١٦.