(وَضَرَبَ اللهُ
مَثَلاً) للنفس المستعدّة ، القابلة الصافية عن الكدورات ،
المستفيدة من فيض القلب ، الثابتة في طريق اكتساب الفضائل ، الآمنة من خوف فواتها
وفنائها ، المطمئنة باعتقادها (يَأْتِيها رِزْقُها
رَغَداً) من العلوم النافعة والفضائل الحميدة والأنوار الشريفة (مِنْ كُلِّ مَكانٍ) أي : من جميع جهات الطرق البدنية كالحواس الممتارة إياها
قوت العلوم الجزئية ، والجوارح ، والآلات التي تطاوعها في الأعمال الجميلة ،
وتمرين الفضيلة إذا كانت منقادة للقلب مطواعة له ، قابلة لفيضه ، باقية على
معتقدها من الحق تقليدا. ومن جهة القلب كإمداد الأنوار ، وهيئات الفضائل ، فظهرت
بصفاتها بطرا وإعجابا بزينتها وكمالها. ونظرا إلى ذاتها ببهجتها وبهائها فاحتجبت
بصفاتها الظلمانية عن تلك الأنوار ومالت إلى الأمور السفلية من زخارف الدنيا
واللذات الحسيّة وانقطع إمداد القلب عنها ، وانقلبت المعاني الواردة إليها من طرق
الحس هيئات غاسقة من صور المحسوسات التي انجذبت إليها (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ
وَالْخَوْفِ) بانقطاع مدد المعاني والفضائل والأنوار من القلب والخوف من
زوال مقتنياتها من الشهوات والمألوفات الحسيّة والمشتهيات (بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) من كفران نعم الله باستعمالها في طلب اللذات الحسيّة
والزخارف الدنيوية ولظهورها بصفاتها وإعجابها بكمالاتها وركونها إلى الدنيا ولذاتها
واستيلائها على القلب بهيئاتها وأفعالها وحجب صاحبها عن نوره ومدده بطلب شهواتها ،
كماقال أمير المؤمنين عليهالسلام : «نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى»بقرية صفتها ما ذكر.
[١١٣ ـ ١١٩] (وَلَقَدْ جاءَهُمْ
رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣)
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ
إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ
وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ
غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥) وَلا تَقُولُوا لِما
تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى
اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا
يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الَّذِينَ
هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ
كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا
السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ
مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩))
(وَلَقَدْ جاءَهُمْ
رَسُولٌ مِنْهُمْ) أي : من جنسهم وهي القوة الفكرية التي هي من جملة قوى
النفس بالمعاني المعقولة والآراء الصادقة (فَكَذَّبُوهُ) بعدم التأثر بها والانقياد لأوامرها ونواهيها العقلية
والشرعية وترك العمل بمقتضاها وقلّة المبالاة بها ، ولم يرفعوا بها رأسا عن