(ذلِكَ) أي : انشراح الصدر بالكفر والرضا به بسبب (بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) لكونها مبلغ علمهم ونهايته ، وما بلغ علمهم إلى الآخرة لانسداد بصائر قلوبهم ومناسبة استعدادهم للأمور الغاسقة السفلية من الموادّ الجسمية ، فأحبوا ما شعروا به ولاءم حالهم. وحبّ الدنيا رأس كل خطيئة لاستلزامه الحجاب الأغلظ الذي لا خطيئة إلا تحته وفي طيّه (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) أي : المحجوبين بأغلظ الحجب لامتناع قبولهم للهداية.
[١٠٨ ـ ١٠٩] (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩))
(أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) بقساوتها وكدورتها في الأصل فلم ينفتح لهم طريق الإلهام والفهم والكشف (وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) بسدّ طريق المعنى المراد من مسموعاتهم وطريق الاعتبار من مبصراتهم إلى القلب ، فلم يؤثر فيهم شيء من أسباب الهداية من طريق الباطن من فيض الروح وإلقاء الملك وإشراق النور ولا من طريق الظاهر بطريق التعليم والتعلم والاعتبار من آثار الصنع (وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) بالحقيقة لعدم انتباههم بوجه من الوجوه وامتناع تيقظهم من نوم الجهل بسبب من الأسباب.
(لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) الذين ضاعت دنياهم التي استنفدوا في تحصيلها وسعهم ، وأتلفوا في طلبها أعمارهم ، وليسوا من الآخرة في شيء إلا في عذاب هيئات التعلقات ووبال التحسرات.
[١١٠ ـ ١١١] (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١١١))
(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا) أي : تباعد بين هؤلاء المحجوبين الذين : إنّ ربّك عليهم بالغضب والقهر ، وبين الذين : إنّ ربّك لهم بالرضا والرحمة وهم الذين هاجروا عن مواطن النفس بترك المألوفات والمشتهيات (مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) وابتلوا بحكم النشأة البشرية (ثُمَّ جاهَدُوا) في الله بالرياضات وسلوك طريقه بالترقي في المقامات والتجريد عن الهيئات والتعلقات (وَصَبَرُوا) على ما تحب النفس وتكرهه بالثبات في السير (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ) بعد هذه الأحوال (لَغَفُورٌ) لهم بستر غواشي الصفات النفسانية (رَحِيمٌ) بإفاضة الكمالات وإبدال صفاتهم بالصفات الإلهية.
[١١٢] (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢))