طور ورتبة فوق رتبة إلى ما لا يعلمه إلا الله ، فلم يشعروا بمقام النبوّة ومعناها (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) فقراؤنا الأدنون منّا ، إذ المرتبة والرفعة عندهم بالمال والجاه ليس إلا كما قال تعالى : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧)) (١).
(بادِيَ الرَّأْيِ) أي : بديهة الرأي وأوله لأنهم ضعاف العقول ، عاجزون عن كسب المعاش ، ونحن أصحاب فكر ونظر قالوا ذلك لاحتجابهم بعقلهم القاصر عن إدراك الحقيقة والفضيلة المعنوية لقصر تصرّفه على كسب المعاش والوقوف على حدة. وأما أتباع نوح عليهالسلام فأنهم أصحاب همم بعيدة وعقول حائمة حول القدس غير متصرّفة في المعاش ولا ملتفتة إلى وجوه كسبه وتحصيله ، فلذلك استنزلوا عقولهم واستحقروها (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) وتقدّم فيما نحن بصدده لكون الفضل عندهم محصورا في التقدّم بالغنى والمال والجاه (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) لعدم إدراك ما تثبتون وفهم ما تقولون مع وفور كياستنا (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) يجب عليكم من طريق العقل الإذعان له (وَآتانِي رَحْمَةً) أي :هداية خاصة كشفية متعالية عن درجة البرهان (مِنْ عِنْدِهِ) أي : فوق طور العقل من العلوم اللدنية ومقام النبوّة (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) لاحتجابكم بالظاهر عن الباطن وبالخليقة عن الحقيقة ولا يمكن تلقيها إلا بالإرادة لأهل الاستعداد فكيف نلزمكموها ونجبركم عليها (وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) أي : إن شئتم تلقيها فزكوا نفوسكم وصفوا استعدادكم إن وهب لكم واتركوا إنكاركم حتى يظهر عليكم أثر نور الإرادة فتقبلوها إن شاء الله.
[٢٩] (وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩))
(لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً) أي : الغرض عندكم من كل أمر محصور في حصول المعاش وأنا لا أطلب ذلك منكم فتنبهوا لغرضي وأنتم عقلاء بزعمكم (وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) لأنهم أهل القربة والمنزلة عند الله فإن طردتهم كنت عدوّ الله مناويا لأوليائه لست بنبي حينئذ (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) ما يصلح به المرء للقاء الله ولا تعرفون الله ولا لقاءه لذهاب عقولكم في الدنيا أو تسفهون تؤذون المؤمنين بسفهكم.
[٣٠ ـ ٣٧] (وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١) قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣)
__________________
(١) سورة الروم ، الآية : ٧.