الملكوت والجبروت وأرواحا مجرّدة ، إذ كل مجرد كلمة لأنه من عالم الأمر كما سمي عيسى كلمة أو تلقن منه معارف وعلوما وحقائق. (فَتابَ عَلَيْهِ) تقبّل رجوعه إليه بالتجرّد عن الملابس الطبيعية والانخراط في سلك الأنوار الملكوتية ، والاتصاف بالكمالات القدسية ، والتجلّي بالعلوم الحقيقية. وأصل تاب عليه : ألقى الرجوع عليه وجعله راجعا. ولعمري إنها هي التوبة المقبولة لا الرجوع الناشئ من قبله. (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ) الكثير القبول لتوبة عباده (الرَّحِيمُ) الذي سبقت رحمته غضبه ، فيرحم عبده في حين غضبه ، كما جعل غضبه على آدم سبب كماله ورجوعه إليه وبعده ليقرب منه.
[٣٨] (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨))
(قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً) كرر ذلك الأمر بالهبوط ليفيد أنه هو الذي أراد ذلك ولو لا إرادته لما قدر إبليس على إغوائهم ، ولهذا أسند الإهباط إلى نفسه مجردا عن التعليق بالسبب بعد إسناد إخراجهما إلى الشيطان ، فهو قريب مما قال لنبيه : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) (١) فتفطن منه سرّ قضائه وقدره وبين وجه حكمة الإهباط بتعقيبه بقوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) وإيراده بالفاء إذ لو لا الهبوط لما أمكنهم من متابعة الهدى ، ولما تميز السعيد والشقيّ ، ولا حصل استحقاق الثواب والعقاب ، ولبطل دار الجزاء من الجنة والنار ، بل ما وجدت. والهدى هو الشرع فمن تبعه أمن سوء العاقبة فلم يخف مما يأتي من العقاب والفناء ، وتسلى عن الشهوات واللذات ، فلم يحزن على ما فاته من حطام الدنيا ونعيمها لاكتحال بصيرته بنور المتابعة واهتدائه إلى ما لا يقاس بلذات الدنيا من الأذواق الروحانية ، والفتوحات السريّة ، والمشاهدات القلبية ، والعلوم العقلية ، والمواجيد النفسية.
[٣٩ ـ ٤١] (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١))
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا) أي : حجبوا عن الدين لكونه في مقابلة اتباع الهدى. وإردافه بقوله : (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) أي : نار الحرمان (هُمْ فِيها خالِدُونَ* يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) بنو إسرائيل هم أهل اللطف الإلهيّ ، وأرباب نعمة الهداية والنبوة ، دعاهم باللطف وتذكير النعمة السابقة ،
__________________
(١) سورة الأنفال ، الآية : ١٧.