وإذا دعوا إلى الإيمان الحقيقي ، كإيمان فقراء المسلمين والصعاليك المجرّدين ، سفهوهم لمكان تركهم لحطام الدنيا وإعراضهم عن متاعها ولذاتها وطيباتها ، لزهدهم الحقيقي. إذ قصارى همومهم ، وقصوى مقاصد عقولهم الأسيرة في قيد الهوى المشوبة بالوهم ، المؤدّية إلى الردى هي تلك اللذات يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ، ولا يعلمون أن غاية السفه هو اختيار الفاني الأخس على الباقي الأشرف. وفرق بين الفاصلتين بالشعور والعلم ، لأنّ تأثير خداعهم في أنفسهم وإفسادهم في الأرض أمر بين كالمحسوس.
وأما ترجيح نعيم الآخرة على نعيم الدنيا المستلزم للفرق بين السفه والحكمة فأمر استدلالي عقليّ صرف.
[١٤] (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤))
(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) حكاية لنفاقهم اللازم لحصول استعدادين فيهم الفطريّ النوريّ ، الضعيف المغلوب ، القريب من الانطفاء ، الذي ناسبوا به المؤمنين ، والكسبيّ الظلماني القويّ الغالب الذي تألفوا به الكفار ، إذ لو لم يكن فيهم أدنى نور لم يقدروا على مخالطة المؤمنين ومصاحبتهم أصلا كغيرهم من الكفار لتسافي الضروري بين النور والظلمة من جميع الوجوه.
والشيطان فيعال من الشطون ، الذي هو البعد ، وشياطينهم المتعمقون في البعد وهم المطرودون ، ورؤساؤهم البالغون في النفاق واستهزاؤهم بالمؤمنين يدلّ على ضعف جهة النور وقوّة جهة الظلمة فيهم ، إذ المستخف بالشيء هو الذي يجد ذلك الشيء في نفسه خفيفا ، قليل الوزن والقدر. فهم يستخفون النورانيين لخفة النور عندهم ، إذ بالنور يعرف قدر النور ، وبرجحان الظلمة فيهم أووا إلى الكفار وألفوهم.
[١٥] (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥))
(اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) أي : يستخفهم ، لأن الجهة التي هم بها ناسبوا الحضرة الإلهية فيهم خفيفة ، ضعيفة. فبقدر ما فنيت فيهم الجهة الإلهية ثبتوا عند أنفسهم ، كما أنّ المؤمنين بقدر ما فنيت فيهم أينيتهم النفسانية وجدوا عند الله شتان بين المرتبتين. (وَيَمُدُّهُمْ) في ظلماتهم البهيمية والسبعية التي هي الصفات الشيطانية والنفسانية بتهيئة موادّها وأسبابها التي هي مشتهياتهم ومستلذاتهم وأموالهم ومعايشهم من الدنيا التي اختاروها بهواهم في حالة كونهم متحيرين. (فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) والعمه : عمى القلب. وطغيانهم : التعدّي عن حدّهم الذي كان ينبغي أن يكونوا عليه ، وذلك الحدّ هو الصدر ، أي وجه القلب الذي يلي النفس كما أن الفؤاد وجهه الذي يلي الروح ، فإنه متوسط بينهما ذو وجهين إليهما. والوقوف على ذلك الحدّ