الإشارة : ينبغى لأهل الوعظ والتذكير أن يعمموا الناس فى التذكير ، ولا يفرقوا بين أهل الصدق ، وأهل التنكير. بل ينصحوا العباد كلهم ، ولا يتركوا تذكيرهم ، مخافة الرد عليهم ، ولا تضيق صدورهم بما يسمعون منهم ، اقتداء بنبيهم صلىاللهعليهوسلم ، وقد قال لقمان لابنه حين أمره بالتذكير : (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (١) ، فإن طلبوا من المذكر الدليل فليقل : إنما أنا نذير ، والله على كل شيىء وكيل. فإن قالوا : هذا الذي تذكر كلنا نعرفه ، فليقل : فأتوا بسورة من مثله ، أو بعشر سور من مثله. والله تعالى أعلم.
ولا ينفع الوعظ والإنذار إن كانت همته كلها مصروفة للدنيا ، كما قال تعالى :
(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦))
قلت : «ما صنعوا فيها» : الضمير يعود على الدنيا ، والظرف يتعلق بصنعوا. أو يعود على الآخرة ، ويتعلق الظرف بحبط ، أي : حبط فى الآخرة ما صنعوا من الأعمال فى الدنيا.
يقول الحق جل جلاله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ) بعمله (الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها) ، فكان إحسانه وبره رياء وسمعة ، (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها) أي : نوصل إليهم جزاء أعمالهم فى الدنيا ، من الصحة والرئاسة ، وسعة الأرزاق ، وينالون ما قصدوا من حمد الناس ، وإحسانهم وبرهم ، (وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ) لا ينقصون شيئا من أجورهم ، فيحتمل : أن تكون الآية نزلت فى أهل الرياء من المؤمنين الذين يراؤون بأعمالهم ؛ كما ورد فى حديث الغازي والغنى القارئ المرائين ، وأنهم أول من تسعر بهم جهنم. ويحتمل أن تكون نزلت فى الكفار ، وهو أليق بقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ) ؛ لأنهم استوفوا ما تقتضيه صور أعمالهم الحسنة ، وبقيت لهم أوزار العزائم السيئة. (وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها) أي : فى الدنيا ، فكل ما صنعوا فى الدنيا من الإحسان حبط يوم القيامة ؛ لأنهم لم يريدوا به وجه الله. والعمدة فى انتظار ثواب الأعمال هو الإخلاص ، (وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ؛ لأنه لم تتوفر فيه شروط الصحة التي من جملتها الإخلاص.
الإشارة : فى الحديث : «من كانت الدّنيا همّه : فرّق الله عليه أمره ، وجعل فقره بين عينيه ، ولم يأته من الدّنيا إلا ما قسم له. ومن كانت الآخرة نيته : جمع الله عليه أمره ، وجعل غناه فى قلبه ، وأتته الدّنيا وهى صاغرة» (٢).
__________________
(١) الآية : ١٧ من سورة لقمان.
(٢) أخرجه الترمذي فى [صفة القيامة ، باب ٣٠] من حديث أنس بن مالك. ؛ وابن ماجه : [الزهد ، باب الهمّ بالدنيا] من حديث زيد بن ثابت.