رضى الله عنه : اضرب أعناقهم ، فإنهم أئمّة الكفر ، وإنّ الله أغناك عن الفداء ، فمكّنى من فلان ـ لنسيب له ـ ومكّن عليّا وحمزة من أخويهما ، فلنضرب أعناقهم ، فلم يهو ذلك رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وقال : «إنّ الله ليلين قلوب رجال حتّى تكون ألين من كل لين ، وإنّ الله ليشدّد قلوب رجال حتّى تكون أشدّ من الحجارة ، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم ، قال : (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١) ، ومثلك يا عمر مثل نوح ، قال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً)» (٢). فخيّر أصحابه ، فأخذوا الفداء ، فنزلت ، فدخل عمر رضى الله عنه على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فإذا هو وأبو بكر يبكيان ، فقال : يا رسول الله : أخبرنى ، فإن أجد بكاء بكيت ، وإلا تباكيت؟ فقال : «أبكى على أصحابك فى أخذهم الفداء ، ولقد عرض علىّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة» (٣) لشجرة قريبة.
والآية دليل على أن الأنبياء ـ عليهمالسلام ـ يجتهدون ، وإنه قد يكون الخطأ ، ولكن لا يقرون عليه. قاله البيضاوي. قال القشيري : أخذ النبي صلىاللهعليهوسلم يوم بدر منهم الفداء ، وكان ذلك جائزا لوجوب العصمة ، ولكن لو قتلهم كان أولى. ه. وقال ابن عطية : إنما توجه العتاب للصحابة على استبقاء الرجال دون قتلهم ، لا على الفداء ؛ لأن الله تعالى قد كان خيّرهم ، فاختاروا الفداء على أن يقتل منهم سبعين ، كما تقدم فى سورة آل عمران (٤). ثم قال : والنبي عليه الصلاة والسلام خارج عن ذلك الاستبقاء. انظر تمامه فى الحاشية.
فإن قلت : إذا كان الحق تعالى خيّرهم فكيف عاتبهم ، وهم لم يرتكبوا محظورا؟ فالجواب : أن العتاب تابع لعلو المقام ، فالخواص يعاتبون على المباح ، إن كان فعله مرجوحا ، والحق تعالى إنما عاتبهم على رغبتهم فى أمر دنيوى ، وهو الفداء ، حتى آثروا قتل أنفسهم على أخذه ، ويدل عليه قوله : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا) ، وهذا إنما كان فى بعضهم ، وجلهم إنما اختاروا الفداء استبقاء لقرابة الرسول عليه الصلاة والسلام. والله تعالى أعلم.
ثم قال تعالى فى تمام عتابهم : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) أي : لو لا حكم الله سبق إثباته فى اللوح المحفوظ ، وهو ألا يعاقب المخطئ فى اجتهاده ، أو أنه سيحل لكم الغنائم ، أو ما سبق فى الأزل من العفو عنكم ، (لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ) ؛ من الفداء أو من الأسارى ، (عَذابٌ عَظِيمٌ). روى أنه عليه الصلاة والسلام قال ، حين نزلت : «لو نزل العذاب ما نجا منه غير عمر وسعد بن معاذ» ؛ وذلك لأنه أيضا أشار بالإثخان.
__________________
(١) الآية ٣٦ من سورة إبراهيم.
(٢) الآية ٢٦ من سورة نوح.
(٣) أخرجه أحمد فى المسند (١ / ٣٨٣) والترمذي ببعض الاختصار فى (تفسير سورة الأنفال) والحاكم وصححه ووافقه الذهبي فى (المغازي ، ٣ / ٢١) وكذلك أخرجه البيهقي فى الدلائل (٣ / ١٣٨) كلهم عن ابن مسعود. وأخرجه بنحوه مسلم فى (الجهاد ـ باب الإمداد بالملائكة) من حديث ابن عباس عن سيدنا عمر ـ رضى الله عن الجميع.
(٤) عند تفسير قوله تعالى : (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا) الآية ١٦٥.