لقتال ؛ بإيثار بعض الرخص ، ليقوى على ما هو أشد منها مشقة عليها ، أو متحيزا إلى جماعة من أكابر العارفين ، فإنهم يغنونه بالمشاهدة عن المجاهدة ، إذا ملكهم زمام نفسه ، وفعل كل ما يشيرون به عليه ، فإن ذلك يفضى به إلى الراحة بعد التعب ، والمشاهدة بعد المجاهدة ، إذ لا تجتمع المجاهدة فى الظاهر مع مشاهدة الباطن عند أهل الذوق.
قال القشيري ـ بعد كلامه على الآية : فالأقوياء من الأغنياء ينفقون على خدمهم من نعمهم ، والأصفياء من الأولياء ينفقون على مريديهم من هممهم ؛ يجبرون كسرهم وينوبون عنهم ، ويساعدونهم بحسن إرشادهم ، ومن أهمل مريدا وهو يعرف صدقه ، أو خالف شيخا وهو يعرف فضله وحقّه ، فقد باء من الله بسخط ، والله تعالى حسيبه فى مكافأته على ما حصل من قبيح وصفه. ه.
ثم عزلهم عن الحول والقوة ، فقال :
(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨))
يقول الحق جل جلاله : فلم تقتلوا الكفار بحولكم وقوتكم وذلتكم ، وقلة عدتكم وعددكم ، وكثرة عدد عدوكم وعدتهم ، (وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) بواسطة مباشرتكم ، حيث أيدكم وسلطكم عليهم ، وإمداد الملائكة لكم ، وإلقاء الرعب فى قلوب عدوكم.
قال البيضاوي : روى أنه لما أطلّت قريش من العقنقل ـ اسم جبل ـ قال صلىاللهعليهوسلم : «هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها ، يكذّبون رسولك ، اللهمّ إنّى أسألك ما وعدتني» ، فأتاه جبريل ، وقال له : خذ قبضة من تراب فارمهم بها ، فلمّا التقى الجمعان تناول كفا من الحصباء فرمى بها فى وجوههم ، وقال : «شاهت الوجوه» ، فلم يبق مشرك إلا شغل بعينيه ، فانهزموا. وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم ، ثم لما انصرفوا أقبلوا على التفاخر ، فيقول الرجل : قتلت وأسرت ، فنزلت الآية ، وإلغاء جواب شرط محذوف ، تقديره : إن افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم ، ولكن الله قتلهم ، (وَما رَمَيْتَ) يا محمد رميا توصلها إلى أعينهم ، ولم تقدر عليه (إِذْ رَمَيْتَ) أي : حين ألقيت صورة الرمي ، (وَلكِنَّ اللهَ رَمى) ، أتى بما هو غاية الرمي ، فأوصلها إلى أعينهم جميعا ، حتى انهزموا وتمكنتم من قطع دابرهم. ه. فالرمى ، حقيقة ، إنما وقع من الله تعالى ، وإن ظهر حسا من النبي صلىاللهعليهوسلم.