يقول الحق جل جلاله ، فى إتمام الرد على المشركين : (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) أي : تعبدونها من دونه ، (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) ، فلا تبال بهم أيها الرسول ، (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا) ، يحتمل أن يريد الأصنام ، فيكون تحقيرا لها ، وردا على من عبدها ؛ فإنها جماد موات لا تسمع شيئا ، أو يريد الكفار ، ووصفهم بأنهم لا يسمعون ، يعنى : سمعا ينتفعون به ، لإفراط نفورهم ، أو لأن الله طبع على قلوبهم ، (وَتَراهُمْ) أي : الأصنام ، (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) ؛ لأنهم مصورون بصورة من ينظر ، فقوله : (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) : مجاز ، (وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) حقيقة ، لأن لهم صورة الأعين ، وهم لا يرون بها شيئا ، هذا إن جعلناه وصفا للأصنام ، وإن كان وصفا للكفار فقوله : (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) حقيقة ، (وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) مجاز ، لأن الإبصار وقع منهم فى الحس ، لكن لمّا لم ينفعهم ؛ لعمى قلوبهم ، نفاه عنهم كأنه لم يكن.
قال المحشي : شاهدوا بأبصار رؤوسهم ، لكنهم حجبوا عن الرؤية ببصائر أسرارهم وقلوبهم ، فلم يعتد برؤيتهم. ه.
الإشارة : فى الآية تحويش للعبد إلى الاعتماد على الله واستنصاره به فى جميع أموره ، فلا يركن إلى شىء سواه ، ولا يخاف إلا من مولاه ، إذ لا شيء مع الله.
وقوله تعالى : (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ ...) الآية. قال المحشى : يقال : رؤية الأكابر ليست بشهود أشخاصهم ، لكن لما يحصل للقلوب من مكاشفة الغيوب ، وذلك على مقدار الاحترام وحضور الإيمان. ه. يعني : أن النظر إلى الأكابر ، من العارفين بالله ، ليست مقصودة لرؤية أشخاصهم ، وإنما هى مقصودة لفيضان أمدادهم ، وذلك على قدر التعظيم والاحترام ، وصدق المحبة والاحتشام ، فكل واحد من الناظرين إليهم يغرف على قدر محبته وتعظيمه. روى أن بعض الملوك زار قبر أبى يزيد البسطامي ، فقال : هل هنا أحد ممن أدرك الشيخ أبا يزيد البسطامي؟ فأتى بشيخ كبير ، فقال : أنا أدركته ، فقال : ما سمعته يقول؟ فقال : سمعته يقول : (من رآنى لا تأكله النار). فقال الملك : هذا لم يكن للنبى ـ عليه الصلاة والسلام ـ ؛ فقد رآه كثير من الكفار فدخلوا النار ، فكيف يكون لغيره؟ فقال له الشيخ : يا هذا ، الكفار لم يروه صلىاللهعليهوسلم على أنه رسول الله ، وإنما رأوه على أنه محمد بن عبد الله ، فسكت. والله تعالى أعلم.
ثم أمر نبيه صلىاللهعليهوسلم بمكارم الأخلاق ، فقال :
(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠))