قلت : عبّر فى جانب الحسنة بإذا ، المفيدة للتحقيق ، وعرّف الحسنة ؛ لكثرة وقوعها ، وعبّر فى جانب السيئة بإن المفيدة للشك ، ونكّر السيئة لندورها.
يقول الحق جل جلاله : (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ) أي : بالجدب والقحط لقلة الأمطار والمياه ، (وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ) بكثرة العاهات ، (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي : لكى ينتبهوا أن ذلك من شؤم كفرهم ومعاصيهم ، ويتعظوا ، وترق قلوبهم بالشدائد ، فيفزعوا إلى الله ، ويرغبوا فيما عنده.
(فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ) ؛ من الخصب والسعة والرخاء ، (قالُوا لَنا هذِهِ) أي : قالوا : هذه لنا ولسعودنا ، ونحن مستحقون له. (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) : جدب وبلاء (يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) أي : يتشاءموا بهم ، ويقولون : ما أصابتنا إلا بشؤمهم ، وهذا إغراق فى وصفهم بالغباوة والقساوة ؛ فإن الشدائد ترقق القلوب ، وتذلل العرائك أي : الطبائع ، وتزيل التماسك ، سيما بعد مشاهدة الآيات ، وهى لم تؤثر فيهم ، بل زادوا عندها عتوا وانهماكا فى الغى.
قال تعالى : (أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ) أي : سبب طائرهم وشرهم عنده ، وهو حكمه ومشيئه ، أو سبب شؤمهم عند الله ، وهو أعمالهم المكتوبة عنده ، فإنها التي ساقت إليهم ما يسوؤهم. قال ابن جزي : أي : حظهم ونصيبهم الذي قدر لهم من الخير والشر عند الله ، وهو مأخوذ من زجر الطير ، ثم سمى به ما يصيب الإنسان ، ومقصود الآية : الرد عليهم فيما نسبوا إلى موسى من الشؤم. ه. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أن ما يصيبهم من الله تعالى بلا واسطة ، أو من شؤم أعمالهم.
الإشارة : هذه الخصلة جارية أيضا في هذه الأمة ، أعني التطاير ، ترى العوام إذا نزل بهم بلاء أو شدة قالوا : بظهور هؤلاء وقع بنا ما وقع ، ولقد سمعت ممن حكى لي هذه المقالة عن العامة وقت ابتداء ظهور الفقراء ، وذلك أنهم آذوهم أذى شديدا ، فأرسل الله عليهم كثرة الأمطار كادت أن تكون طوفانا ، فقالوا : ما أصابنا هذا إلا من شؤم هذه المرقعات التي ظهرت ، ولم يدروا أن ذلك منهم لإذايتهم أهل الله. والله تعالي أعلم.
ثم ذكر عتو آل فرعون ، وعقوبته لهم ، فقال :
(وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (١٣٣) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما