فرط الغفلة ، أو يشتغلون بما لا ينفعهم ، (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ) وهو أن يستدرجهم بالنعم حتى يأخذهم بغتة؟ (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) الذين خسروا أنفسهم ، بترك النظر والاعتبار ، حتى هلكوا ، فلم ينفعهم حينئذ الندم.
الإشارة : إظهار المحن والمنن وتعاقبهما على الإنسان ، حكمتها : الرجوع إلى الله ، وتضرع العبد إلى مولاه ، فمن فعل ذلك كان معتمدا عليه فى الحالتين ، مغترفا من بحر المنة بكلتا اليدين ، ومن نزلت به المحن ثم أعقبته لطائف المنن ، فلم يرجع إلى مولاه ، ولا شكره على ما خوله من نعماه ، بل قال : هذه عادة الزمان ؛ يتعاقب بالسراء والضراء على الإنسان ، فهذا عبد منهمك فى غفلته ، قد اتسعت دائرة حسه ، وانطمست بصيرة قدسه ، يصدق عليه قوله تعالى : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) (١).
وقال القشيري فى قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا ...) الآية : أي : لو آمنوا بالله واتّقوا الشرك (لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض) بأسباب العطاء ، فإن سبق بخلافه القضاء فأبواب الرضا ، والرضا أتم من العطاء. ويقال : ليس العبرة بالنعمة ؛ العبرة بالبركة فى النعمة. ه.
قوله تعالى : (وَلكِنْ كَذَّبُوا) أي : شكّوا فى هذا الوعد فلم يتقوا بالإيمان والتقوى حتى يتركوا الأسباب ، والشاك فى الصادق المصدوق مكذب. وقال الشيخ أبو العباس المرسى رضى الله عنه : للناس أسباب ، وسببنا الإيمان والتقوى ، ثم تلا هذه الآية : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا ...) الآية ، وقد تقدم عند قوله : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) (٢). ما يتعلق بالأمن من مكر الله.
ولما ذكر هلاك الأمم الماضية ، خوّف من خلفهم بعدهم إلى يوم القيامة ، فقال :
(أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (١٠٢))
__________________
(١) من الآية ١٧٩ من سورة الأعراف.
(٢) الآية ٨٢ من سورة الأنعام.