ولما تبين عناده قال له تعالى : (فَاهْبِطْ مِنْها) أي : من السماء أو من الجنة ، (فَما يَكُونُ لَكَ) أي : فما يصح لك (أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) وتعصى ؛ فإنها موطن الخاشع المطيع ، وفيه دليل على أن الكبر لا يليق بأهل الجنة ، فإنه تعالى إنما أنزله وأهبطه ؛ لتكبره لا لمجرد عصيانه ، (فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) أي : ممن أهانه الله لتكبره. قال صلىاللهعليهوسلم : «من تواضع لله رفعه الله ، ومن تكبّر وضعه الله» (١).
ولما تحقق إبليس أنه مطرود ، سأل الإمهال فقال : (أَنْظِرْنِي) أي : أخرنى ، (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) فلا تمتنى ، ولا تعجل عقوبتى ، (قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) ؛ يقتضى أنه أجابه إلى ما سأل ، لكنه محمول على ما فى الآية الأخرى : (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) (٢) ؛ وهو نفخ الصور النفخة الأولى ، (قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي) أي : بعد أن أمهلتنى لأجتهدن فى إغوائهم بأى طريق يمكننى ، بسبب إغوائك إياى ، والله (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) ، وهو الطريق الذي يوصلهم إليك ، فأقعد فيه ، وأردهم عنه ، (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) ؛ فآتيهم من الجهات الأربع ، وذلك عبارة عن تسلطه على بنى آدم كيفما أمكنه.
قال ابن عباس : (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) : الدنيا يزيّنها لهم ، (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) : الآخرة ينسيها لهم ، (وعن أيمانهم) : الحسنات يثبطهم عنها ، (وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) : السيئات يزينها فى أعينهم. ه. ولم يجعل له سبيلا من فوقهم ، ولا من تحت أرجلهم ؛ لأن الرحمة تنزل من أعلى ، فلم يحل بينهم وبينها ، والإتيان من تحت موحش ، وأيضا : السفليات محل للتواضع والخشوع ، فتكثر فيه الأنوار فيحترق بها. وقال الشيخ أبو العباس المرسى رضى الله عنه : (لأنّ فوق : التوحيد ، وتحت : الإسلام ، ولا يمكن أن يأتى من توحيد ولا إسلام).
ثم قال تعالى : (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) ؛ مطيعين ، قال بعض الصوفية : (لو كان ثم مقام أعظم من الشكر لذكره إبليس) ؛ فالشكر أعظم المقامات ، وهو الطريق المستقيم الذي قعد عليه إبليس ، والشكر : هو ألا يعصى الله بنعمه ، أو : صرف الجوارح كلها فى طاعة الله ، أو رؤية المنعم فى النعمة. وإنما قال إبليس ذلك ؛ ظنّا لقوله : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) (٣) ، وسيأتى فى الإشارة حقيقته.
(قالَ) تعالى لإبليس : (اخْرُجْ مِنْها) ؛ من السماء أو الجنة ، (مَذْؤُماً) أي : مذموما ، من ذامه ، أي : ذمه ، (مَدْحُوراً) أي : مطرودا. والله (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) فى الكفر (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) أي : منك وممن تبعك.
__________________
(١) أخرجه البيهقي فى شعب الإيمان (الباب ٥٧) من حديث سيدنا عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ.
(٢) الآية ٣٨ من سورة الحجر.
(٣) من الآية ٢٠ من سورة سبأ.