«إذا التبس عليك أمران ، فانظر أثقلهما على النفس فاتبعه ؛ فإنه لا يثقل عليها إلا ما كان حقا». وقال أبو بكر الصديق رضى الله عنه : والله ما ثقل ميزان عبد إلا باتباعه الحق ، وما خف إلا باتباعه الهوى. قال تعالى : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ). ه. بمعناه ، ذكره فى القوت. وهذا فى غير النفس المطمئنة ، وأما هى فلا يثقل عليها شىء ، وقد يثقل عليها الباطل ، ويخف عليها الحق ، لكمال رياضتها. والله تبارك وتعالى أعلم.
ثم ذكّرهم بالنعم ، فقال :
(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (١٠))
يقول الحق جل جلاله : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ) ؛ تتصرفون فيها بالبناء والسكن ، وبالغرس والحرث والزرع ، وغير ذلك من أنواع التصرفات ، (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) : أسبابا تعيشون بها ؛ كالتجارة وسائر الحرف ، (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) على هذه النعم ، فتقابلون المنعم بالكفر والعصيان ، فأنتم جديرون بسلبها عنكم ، وإبدالها بالنقم ، لو لا فضله ورحمته.
الإشارة : نعمة التمكين فى الأرض متحققة فى أهل التجريد ، المنقطعين إلى الله تعالى ، فهم يذهبون فى الأرض حيث شاءوا ، ومائدتهم ممدودة يأكلون منها حيث شاءوا ، فهم متمكنون من أمر دينهم ؛ لقلة عوائدهم ، ومن أمر دنياهم ؛ لأنها قائمة بالله ، تجرى عليهم أرزاقهم من حيث لا يحتسبون ، تخدمهم ولا يخدمونها ؛ «يا دنياى اخدمي من خدمنى ، وأتعبى من خدمك». فمن قصّر منهم فى الشكر توجه إليه العتاب بقوله : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ) إلى قوله : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) ، ومن تحقق شكره قيل له : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) (١). والله تعالى أعلم.
ولما ذكر نعمة الإمداد أتبعه بنعمة الإيجاد ، فقال :
(وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣)
__________________
(١) الآيتان : ٥ ـ ٦ من سورة القصص.