والجواب عن شبهتهم : أنه خلاف ما أنزل الله على جميع رسله ، والحق تعالى لم يتركهم على ذلك ، بل بعث لهم الرسل يكلفهم بالخروج عنه ، والإرادة خلاف التكليف ، وأيضا : قولهم هذا لم يصدر منهم على وجه الاعتذار ؛ وإنما صدر منهم على وجه المخاصمة والاحتجاج. ولا يصح الاحتجاج بالقدر. والحاصل أنهم تمسكوا بالحقيقة ورفضوا الشريعة ، وهو كفر وزندقة ، إذ لا بد من الجمع بين الحقيقة فى الباطن ، والتمسك بما جاءت به الرسل من الشريعة فى الظاهر ، وإلّا فهو على باطل.
ولذلك ردّ الله تعالى عليهم بقوله : (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الرسل ، فتمسكوا بالحقيقة الظلمانية ، (حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) أي : عذابنا الذي أنزلناه عليهم بتكذيبهم (قُلْ) لهم : (هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ) يدل على أن الله أمركم بالشرك ، وتحريم ما أحل ، وأنه رضى ذلك لكم ، (فَتُخْرِجُوهُ) أي : فتظهروه (لَنا) ، بل (إِنْ تَتَّبِعُونَ) فى ذلك (إِلَّا الظَّنَ) ولا تحقيق عندكم ، (وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) ؛ تكذبون على الله تعالى ، وفيه دليل على أن الظن لا يكفى فى العقائد.
(قُلْ) لهم : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ) على عباده ، (الْبالِغَةُ) ، حيث بعث الرسل مبشرين ومنذرين ، وأمروا بتوحيد الله وطاعته ، فكل من خالفهم قامت الحجة عليه ، هذا باعتبار التشريع الظاهر ، وأما باعتبار باطن الحقيقة ، فالأمور كلها بيد الله ؛ يضل من يشاء بعدله ، ويهدى من يشاء بفضله ، (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) ولكن شاء هداية قوم وضلال آخرين ، (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (١) فقول المشركين : (فَلَوْ شاءَ) الله ... إلخ ، حق فى نفسه ، لكنهم لم يعذروا ؛ لإهمالهم الشريعة.
(قُلْ هَلُمَ) أي : أحضروا ، (شُهَداءَكُمُ) أي : كبراءكم وأئمتكم ، (الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا) ، استحضرهم ليلزمهم الحجة ، ويظهر بانقطاعهم ضلالهم ، وألّا متمسك لهم فى ذلك. ثم قال لنبيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ : (فَإِنْ شَهِدُوا) بشىء من ذلك ، (فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) أي : لا تصدقهم وبيّن لهم فساده ؛ (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) ، والأصل أن يقول : ولا تتبع أهواءهم ، فوضع الظاهر موضع المضمر ، للدلالة على أن مكذب الآية متبع للهوى لا غير ، وأن متبع الحق لا يكون إلا مصدقا لها. (وَ) تتبع أيضا (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) ؛ كعبدة الأوثان ، (وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) ؛ يجعلون له عديلا ومثيلا.
الإشارة : اعلم أن الحق جل جلاله كلف عباده فى هذه الدار ، بالقيام بوظيفتين : الشريعة والحقيقة ، الشريعة محلها الظواهر ، والحقيقة محلها البواطن ، الشريعة تقتضى التكليف ، والحقيقة تقتضى التعريف ، الشريعة شهود الحكمة ، والحقيقة شهود القدرة. وجعل الشريعة رداء الحقيقة ولباسا لها ، ثم جعل سبحانه فى القلب عينين ، وتسمى
__________________
(١) الآية ٢٣ من سورة الأنبياء.