ثم ذكر ما حرّم على بنى إسرائيل ، فقال :
(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦))
قلت : الحوايا هى الأمعاء ، أي : المصارين التي فيها البعر ، وتسمى المباعر ، جمع حوية ، فعيلة ، فوزنها على هذا : فعائل ، فصنع بها ما صنع بهراوا ، وقيل : جمع حاوية ، فوزنها : فواعل ، كقوارب ، وهو عطف على ما فى قوله : (إِلَّا ما حَمَلَتْ).
يقول الحق جل جلاله : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) ؛ ما له أصبع ، كالإبل والأوز والنعام ، وغيرها من الحيوان ، الذي هو غير منفرج الأصابع وله ظفر ، وقيل : كل ذى مخلب وحافر ، وسمى الحافر ظفرا ؛ مجازا (وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) كالثروب وشحوم الكلى ، (إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما) أي : إلا ما علق من الشحم بظهور البقر والغنم ، فهو حلال عليهم ، لكنهم اليوم لا يأكلونه ، حدثنى شيخى الفقيه الجنوى أنه سأل بعض أحبارهم : هل هو حرام فى كتابكم؟ فقال له : لا ، لكنهم قاسوه سدا للذريعة. ه. فلما شددوا شدد الله عليهم ، (أَوِ الْحَوايا) أي : ما احتوت عليه الأمعاء والحشوة مما يتحوى فى البطن من الشحوم ، فهو حلال عليهم (أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) فى جميع الجسد ، فإنه حلال عليهم ، لكنهم شددوا فحرموا الجميع عقوبة من الله (ذلِكَ) التحريم جزاء (جَزَيْناهُمْ) به بسبب بغيهم ، أي : ظلمهم ، (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) فيما أخبرنا به من التحريم ، وفى ذلك تعريض بكذب من حرّم غير ما حرم الله.
الإشارة : يؤخذ من الآية أن الذنوب والمعاصي تضيق على العبد لذائذ متعته ، وتقتر عليه طيب رزق بشريته ، وتضيق عليه أيضا حلاوة المعاملة فى قلبه ، ولذة الشهود فى روحه وسره ، لقوله تعالى : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ) ، وقال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) (١) ، وقال فى شأن القلب : (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) (٢) ، أي : نورا يفرق بين الحق والباطل ، وقال تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) (٣) أي : علما لدنيا ، فالمعصية كلها تبعد العبد من الحضرة ، إن لم يتب ، والطاعة كلها تقرب من الحضرة. والتنعم إنما هو على قدر القرب ، ونقصانه على قدر البعد. والله تعالى أعلم.
__________________
(١) الآية ٩٦ من سورة الأعراف
(٢) الآية ٢٩ من سورة الأنفال.
(٣) من الآية ٢٨٢ من سورة البقرة.