يقول الحق جل جلاله : (وَ) أنشأ أيضا (مِنَ الْأَنْعامِ) أنعاما (حَمُولَةً) ؛ ما يحمل الأثقال ، كالكبار منها ، (وَفَرْشاً) ؛ ما لا يحمل ، كالصغار لدنوها من الأرض. أو حمولة للإبل ، وفرشا للغنم ، لأنها تفرش للذبح ، ويفرش ما ينسج من صوفها ، (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) أي : كلوا ما أحل الله لكم منها ، (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) فى التحليل والتحريم من عند أنفسكم ، (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ؛ ظاهر العداوة.
ثم فصلها فقال : (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) ؛ ذكر وأنثى من كل صنف ، والصنف : ما معه آخر من جنسه يزاوجه ، ثم بيّنها فقال : (مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ) ؛ ذكر وأنثى ؛ كبش ونعجة ، (وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ) ؛ التيس وهو الذكر ، والعنز وهى الأنثى ، (قُلْ) لهم (آلذَّكَرَيْنِ) أي : ذكر الضأن والمعز ، (حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ) منهما؟ (أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) من الأجنة ، ذكرا كان أو أنثى؟ (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ) يدل على أن الله تعالى حرم شيئا من ذلك ، (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فى دعوى التحريم عليه.
(وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ) ؛ ذكر وأنثى ، (وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ) كذلك. (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ) أم حرم ما (اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) من الجنين مطلقا؟ وهذا تقسيم على الكفار حتى يتبين كذبهم على الله ، وتوبيخ لهم ، حيث حرموا بعض الذكور مرة وبعض الإناث مرة ، فألزمهم تحريم جميع الذكور ، إن كان علة التحريم وصف الذكورة ، أو تحريم جميع الإناث ، إن كانت العلة الأنوثة ، أو تحريم الجميع إن كان المحرم ما اشتملت عليه الأرحام ، ولا وجه للتخصيص ، فالاستفهام للإنكار ، وأكده بقوله : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ) حاضرين حين (وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا) التحريم ، ولا طريق لكم إلى معرفة هذا إلا المشاهدة والسماع ، وليس لكم شىء من ذلك ، وإنما أنتم مفترون على الله.
(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) ؛ فنسب إليه تحريم ما لم يحرم ، والمراد : كبراؤهم الأوائل كعمرو ابن لحى وأمثاله ، أي : لا أحد أظلم ممن كذب على الله ، (لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) إلى مراشدهم ، أو إلى ما ينفعهم.
الإشارة : ومن الأحوال ما تحمل صاحبها إلى مقام الحرية ، بشهود الربوبية ، فيغلب عليه العز والاستظهار ، ومنها ما تحمله إلى مقام العبودية ، فيغلب عليه الذل والانكسار ، وإليه الإشارة بقوله : (حَمُولَةً وَفَرْشاً) ، فليتمتع المريد بما يظهر عليه منهما ، ولا يتبع خطوات الشيطان فيتعدى طوره ، ولا يعرف قدره.
وهذه الأحوال ثمانية أنواع : أربعة سفلية تناسب العبودية ، وأربعة علوية تناسب الربوبية. فالأربعة السفلية : الذل ، والفقر ، والعجز ، والضعف. والأربعة العلوية : العز ، والغنى ، والقدرة ، والقوة. فمن أراد التعلق بهذه الأوصاف فليناد من كوة الذل : يا عزيز من للذليل سواك؟ ، ومن كوة الفقر : يا غنى من للفقير سواك؟ ، ومن كوة العجز : يا قدير من للعاجز سواك؟ ومن كوة الضعف : يا قوى من للضعيف سواك؟ ، ير الإجابة طوع يديه ، ومن أراد التحقق بها ، فليتحقق بذله يمده بعزه ، وليتحقق بفقره يمده بغناه ، وليتحقق بعجزه يمده بقدرته ، وليتحقق بضعفه يمده بقوته ، «تحقق بوصفك يمدك بوصفه». وبالله التوفيق.