يقول الحق جل جلاله : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) أي : يقبض أرواحكم (بِاللَّيْلِ) إذا نمتم ، وفى ذلك اعتبار واستدلال على البعث الأخروى ، (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ) أي : ما كسبتم من الأعمال (بِالنَّهارِ). وخص الليل بالنوم والنهار بالكسب جريا على المعتاد ، (ثُمَ) إذا توفاكم بالليل (يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) أي : فى النهار ، (لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) أي : ليبلغ المتيقظ آخر أجله المسمى له فى الدنيا ، وهو أجل الموت ، (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) بالموت (ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فيعاتب المسيء ويكرم المحسن.
روى : أن العبد إذا قبض عرجت الملائكة بروحه إلى سدرة المنتهى ، فيوقف به هناك ، فيعاتبه الحق تعالى على ما فرط منه حتى يرفض عرقا ، ثم يقول له : قد غفرت لك ، اذهبوا به ليرى مقعده فى الجنة ، ثم يردّ إلى السؤال.
(وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) بالقهر والغلبة ، (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) ؛ ملائكة تحفظ أعمالكم ، وهم الكرام الكاتبون ، والحكمة فيه : أن العبد إذا علم أن أعماله تكتب عليه وتعرض على رؤوس الأشهاد ، كان أزجر له عن المعاصي ، ثم لا تزال الملائكة تكتب عليه أعماله (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) أي : ملك الموت وأعوانه ، (وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) بالتواني والتأخير ، ولا يجاوزون ما حد لهم بالتقديم والتأخير. (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ) أي : إلى حكمه وجزائه ، أو مشاهدته وقربه ، (مَوْلاهُمُ) الذي يتولى أمرهم ، (الْحَقِ) أي : المتحقق وجوده ، وما سواه باطل ، (أَلا لَهُ الْحُكْمُ) يومئذ ، لا حكم لغيره فيه ، (وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) ؛ يحاسب الخلائق فى مقدار حلب شاة ، لا يشغله حساب عن حساب ، ولا شأن عن شأن ، سبحانه لا إله إلا هو.
الإشارة : وهو الذي يتوفاكم ، أي : يخلصكم بليل القبض ، ويعلم ما كسبتم فى نهار البسط ، ثم يبعثكم من ليل القبض إلى نهار البسط ، وهكذا ؛ ليقضى أجل مسمى للإقامة فيهما ، ثم إليه مرجعكم بالخروج عنهما ؛ لتكونوا لله لا شىء دونه ، وفى الحكم : «بسطك كى لا يبقيك مع القبض ، وقبضك كى لا يتركك مع البسط ، وأخرجك عنهما ، كى لا تكون لشىء دونه».
وقال فارس رضى الله عنه : القبض أولا ثم البسط ، ثم لا قبض ولا بسط ؛ لأن القبض والبسط يقعان فى الوجود ؛ أي : فى وجود النفس ، وأما مع الفناء والبقاء فلا. ه. أي : فلا قبض ولا بسط ؛ لأن العارف الواصل مقبوض فى بسطه ، مبسوط فى قبضه ، لا تؤثر فيه هواجم الأحوال ؛ لأنه مالك غير مملوك. والله تعالى أعلم.
ومن علم أن الله قاهر فوق عباده ، انسلخ من حوله وقوته ، وانعزل عن تدبيره واختياره ؛ لإحاطة القهرية به ، ومن تحقق عموم قهاريته تعالى ، علم أنه لا حجاب حسى بينه وبينه ، إذ لو حجبه شىء لستره ما حجبه ، ولو كان له ساتر لكان لوجوده حاصر ، وكل حاصر لشىء فهو له قاهر ، (وهو القاهر فوق عباده) ، وإنما المحجوب : العبد عن ربه بوجود وهمه وجهله ، ومن تحقق أن الملائكة تحفظ أعماله استحيا من ارتكاب القبائح ، لئلا تعرض على رؤوس الأشهاد.