يقول الحق جل جلاله : (قُلْ) لهم أيضا : (أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ) أي : أصمّكم وأعماكم ، (وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ) ؛ بأن غطى عليها بما يزول به عقلكم وفهمكم ، (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ) أي : بذلك المأخوذ. (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) أي : نكررها على جهات مختلفة ، كتصريف الرياح ، تارة من جهة المقدمات العقلية ، وتارة من جهة الترغيب والترهيب ، وتارة بالتنبيه والتذكير بأحوال المتقدمين ، (ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) أي : يعرضون عنها ولم يلتفتوا إليها ، و (ثم) : لاستبعاد الإعراض بعد تصريف الآيات وظهورها.
و (قُلْ) لهم أيضا : (أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً) من غير مقدمة (أَوْ جَهْرَةً) بتقديمها ، فالبغتة : ما لم يتقدم لهم به شعور ، والجهرة : ما قدمت لهم مخايله ، وقيل : بغتة بالليل ، وجهرة بالنهار ، (هَلْ يُهْلَكُ) أي : ما يهلك به هلاك سخط وتعذيب ، (إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) بالكفر والمعاصي.
الإشارة : إنما خلق الأسماع والأبصار ، لسماع الوعظ والتذكار ، ولنظرة التفكر والاعتبار ، فمن صرفهما فى ذلك فقد شكر نعمتها ، ومن صرفهما فى غير ذلك فقد كفر نعمتهما ، ومن كفر نعمتهما يوشك أن تؤخذ منه تلك النعمة ، وكذلك نور العقل ، ما جعله الله فى العبد إلا ليعرفه به ، ويعرف دلائل توحيده ، ويتبصّر به فى أمره. فإذا صرفه فى تدبير هواه وشهواته فقد كفر نعمته ، فيوشك أيضا أن يؤخذ منه ،.
وإذا أنعم الله عليه باستعمال هذه الحواس فيما خلقت لأجله ؛ فليكن على حذر من أخذ ذلك منه أيضا ، فلا يأمن مكر الله ، فإن الأسماع والأبصار والقلوب بيد الله ، يقلبها كيف شاء ، فإن أخذها لن يقدر على ردها ، ولذلك كان العارف لا يزول اضطراره ، ولا يكون مع غير الله قراره ، والعذاب الذي يأتى بغتة ، هو السلب بغتة ، أي : فقد القلب فى مرة واحدة ، والذي يأتى جهرة هو فقده شيئا فشيئا ، وسبب هذا الهلاك : هو ظلم العبد لنفسه ، إما بسوء أدب مع الله ، أو نقض عهد الشيوخ العارفين بالله. وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ثم رغّب فى الإيمان بالرسل ، وحذّر من الكفر بهم ، فقال :
(وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩))
يقول الحق جل جلاله : (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ) للمؤمنين بالنعيم المقيم ، (وَمُنْذِرِينَ) للكفار بالعذاب الأليم ، ولم نرسلهم ليقترح عليهم ويتلهى بهم ، (فَمَنْ آمَنَ) بهم ، (وَأَصْلَحَ) ما يجب إصلاحه على ما شرع لهم ، (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) من العذاب ، (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لفوات الثواب ، (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا