يقول الحق جل جلاله : (قُلْ) للمشركين يا محمد : (لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خلقا وملكا وعبيدا؟. (قُلْ) لهم هو : (لِلَّهِ) لا لغيره ، والقصد بالآية : إقامة البرهان على التوحيد وإبطال الشرك. وجاء ذلك بصيغة الاستفهام ؛ لإقامة الحجة على الكفار ، فسأل أولا ، ثم أجاب عن سؤاله بنفسه ؛ لأنّ الكفار يوافقون على ذلك ضرورة ، فثبت أن الإله الحق هو الذي له ما فى السموات والأرض ، وإنما يحسن أن يكون السائل مجيبا إذا علم أن خصمه لا يخالفه فى الجواب الذي يقيم به الحجة عليه.
ثم دعاهم إلى الإيمان والتوبة بتلطّف وإحسان فقال : (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) ؛ (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١) كما فى الآية الأخرى ، والكتابة هنا عبارة عن القضاء السابق ، وقد فسرها رسول الله صلىاللهعليهوسلم بقوله : «إنّ الله كتب كتابا قبل أن يخلق السّموات والأرض فهو عنده» وفيه : «أنّ رحمتى سبقت غضبى» (٢) وفى رواية : «تغلب غضبى» (٣).
قال البيضاوي : (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أي : التزمها تفضلا وإحسانا ، والمراد بالرحمة : ما يعمّ الدارين ، ومن ذلك : الهداية إلى معرفته ، والعلم بتوحيده ، بنصب الأدلة ، وإنزال الكتب والإمهال على الكفر. ه.
ثم ذكر محل ظهور هذه الرحمة ، فقال : والله (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي : ليجمعنكم من القبور مبعوثين إلى يوم القيامة فيجازى أهل التوبة والإيمان ، ويعاقب أهل الشرك والكفران ، (لا رَيْبَ) فى ذلك اليوم ، أو فى ذلك الجمع ، فيظهر أهل الخسران من أهل الإحسان ، ولذلك قال : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بتضييع رأس مالهم ، وهو النظر الصحيح الموجب للإيمان والتوحيد (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) حتى أدركهم الموت ؛ فلا خسران أعظم من ذلك. ودخلت الفاء فى الخبر ؛ للدلالة على أن عدم إيمانهم مسبّب عن خسرانهم ؛ فإن إبطال النظر ، والانهماك فى التقليد واتباع الوهم ، أدّى بهم إلى الإصرار على الكفر ، والامتناع من الإيمان إلى الممات. فخسروا أولا بتضييع النظر ، فتسبب عنه عدم الإيمان.
ثم تمم جوابه فقال : (وَلَهُ ما سَكَنَ) أي : قل لهم : ما فى السموات والأرض لله ، وله أيضا ما سكن (فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي : ما استقر فيهما وما اشتملتا عليه ، أو ما سكن فيهما وتحرك ، (وَهُوَ السَّمِيعُ) لكل مسموع ، (الْعَلِيمُ) بكل معلوم ؛ فلا يخفى عليه شىء فى الليل والنهار ، فى جميع الأقطار.
__________________
(١) الآية ٥٤ من السورة نفسها.
(٢) أخرجه البخاري فى (التوحيد ، باب قول الله تعالى : «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ» من حديث أبى هريرة.
(٣) أخرجها البخاري فى (التوحيد ، باب قوله تعالى «وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ» ومسلم فى (التوبة ، باب : فى سعة رحمة الله) من حديث أبى هريرة.