فالأولى لمقام الإسلام ، وإليه توجه الخطاب بقوله : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) ، والثانية لمقام الإيمان ، وإليه توجه الخطاب بقوله : (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ) ، والثالثة لمقام الإحسان ، وإليه توجه الخطاب بقوله : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ).
يقول الحق جل جلاله : (ذلِكَ الْكِتابُ) الذي لا يقرب ساحته شكّ ولا ارتياب ، هو عين الهداية لأهل التقى من ذوى الألباب ، فلا يزالون يترقّون به فى المقامات والأحوال حتى يسمعوه من الكبير المتعال ، بلا واسطة تبليغ ولا إرسال ، قد انمحت فى حقهم الرسوم والأشكال ، وهذه غاية الهداية ، وتحقيق سابق العناية.
قال جعفر الصادق : (والله لقد تجلى الله تعالى لخلقه فى كلامه ولكن لا يشعرون) وقال أيضا ـ وقد سألوه عن حالة لحقته فى الصلاة حتى خر مغشيا عليه ، فلما سرّى عنه ، قيل له فى ذلك فقال ـ : (ما زلت أردد الآية على قلبى حتى سمعتها من المتكلم بها ، فلم يثبت جسمى لمعاينة قدرته).
فدرجات القراءة ثلاث :
أدناها : أن يقرأ العبد كأنه يقرأ على الله تعالى واقفا بين يديه ، وهو ناظر له ومستمع منه ، فيكون حاله السؤال والتملق والتضرع والابتهال.
والثانية : أن يشهد بقلبه كأن الله تعالى يخاطبه بألفاظه ، ويناجيه بإنعامه وإحسانه ، فمقامه الحياء والتعظيم ، والإصغاء والفهم.
والثالثة : أن يرى فى الكلام المتكلم ، فلا ينظر إلى نفسه ولا إلى قراءته ، بل يكون فانيا عن نفسه ، غائبا فى شهود ربه ، لم يبق له عن نفسه إخبار ولا مع غير الله قرار.
فالأولى لأهل الفناء فى الأفعال ، والثانية لأهل الفناء فى الصفات ، والثالثة لأهل الفناء فى شهود الذات ، رضى الله عنهم ، وحشرنا على منهاجهم .. آمين.
ثم وصف المتقين ، الذين خصوا بهداية كتابه المبين ، بثلاثة أوصاف ، فقال :
(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣))
قلت : هذه الأوصاف تتضمن ثلاثة أعمال : الأول : عمل قلبى وهو الإيمان ، والثاني : عمل بدني ، وهو الصلاة ، والثالث : عمل مالى ، وهو الإنفاق فى سبيل الله ، وهذه الأعمال هى أساس التقوى التي تدور عليها.