وعند أهل الإشارة يقول الحق جل جلاله : ألف : أفرد سرّك إلىّ ، انفراد الألف عن سائر الحروف ، واللام : ليّن جوارحك لعبادتى ، والميم : أقم معى بمحو رسومك وصفاتك ، أزينك بصفاء الأنس والقرب منى. قاله الثعلبي.
قلت : والأظهر أنها حروف تشير للعوالم الثلاثة ، فالألف لوحدة الذات فى عالم الجبروت ، واللام لظهور أسرارها فى عالم الملكوت ، والميم لسريان أمدادها فى عالم الرحموت ، والصاد لظهور تصرفها فى عالم الملك. وكل حرف من هذه الرموز يدل على ظهور أثر الذات فى عالم الشهادة ، فالألف يشير إلى سريان الوحدة فى مظاهر الأكوان ، واللام : يشير إلى فيضان أنوار الملكوت من بحر الجبروت ، والميم يشير إلى تصرف الملك فى عالم الملك ، وكأن الحق تعالى يقول : هذا الكتاب الذي تتلو يا محمد ـ هو فائض من بحر الجبروت إلى عالم الملكوت ، ومن عالم الملكوت إلى الرحموت ، ثم نزل به الروح الأمين إلى عالم الملك والشهادة ، فلا ينبغى أن يرتاب فيه ، ولذلك رتب عليه قوله تعالى :
(ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ ...)
قلت : الريب : تحرّك القلب واضطرابه بالشكوك والأوهام ، وتقابله الطمأنينة بالسكون إلى الحق على الدوام.
يقول الحق جل جلاله : يا أيها الرسول المصطفى والنبي المجتبى (ذلِكَ الْكِتابُ) الذي أنزلناه عليك من جبروت قدسنا وملكوت عزّنا (لا رَيْبَ فِيهِ) أنه من عندنا. فمن ارتاب فيه ، أو نسبه إلى غيرنا ، فقد استحق البعد من ساحة رحمتنا ، وحلت عليه شدائد نقمتنا ، ومن تحقق به أنه من لدنا ، وآمن بمن جاء به من عندنا ، فقد استحق دخول حضرة قدسنا حتى يسمع منا ويتكلم بنا ، فإذا أحببته كنت له ، فبى يسمع ، وبي يبصر ، وبي يتكلم ... الحديث. فيكون من الصديقين المقربين مع النبيين والمرسلين ، وكان فى ذروة درجات المتقين ، الذين يهتدون بهدى القرآن المبين ، كما أشار إلى ذلك بقوله:
(ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢))
قلت : (هدى) خبر عن مبتدأ مضمر ، أو مبتدأ بتقديم الخبر. أي : هو هاد للمتقين ، أو فيه الهدى لهم. والهدى : هو الإرشاد والبيان ، ومعناه : الدلالة الموصلة إلى الحق. والمتقى : من جعل بينه وبين مقت الله وقاية ، وله ثلاث درجات :
حفظ الجوارح من المخالفات ،
وحفظ القلوب من المساوئ والهفوات ،
وحفظ السرائر من الوقوف مع المحسوسات ،