وقال الورتجبي : قال أبو سعيد الخراز : إن له عبادا يدخل عليهم الخلل ، ولو لا ذلك لفسدوا وتعطلوا ، وذلك أنهم بلغوا من العلم غاية ، صاروا إلى علم المجهول ، الذي لم ينصّه كتاب ، ولا جاء به خبر ، لكن العقلاء العارفون ، يحتجون له من الكتاب والسنة ، بحسن استنباطهم ومعرفتهم ، قال الله تعالى : (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ). ه.
قلت : ومعنى كلامه : أن الله ـ تعالى ـ أشغل علماء الظاهر بتقرير علم الفرق ، ولو لا اشتغالهم بذلك لتعطلوا وتبطلوا ، إذ لا قدرة لهم على عمل القلوب من الفكرة والنظرة ، لكن العارفون يقرون لهم ذلك ، ويحتجون لهم بما فى نشر العلم من الأجور ، من الكتاب والسنة ، لأنهم قاموا بنظام علم الحكمة ورفعوا علم الشريعة ، ولولا قيامهم بذلك لتعين على أهل الباطن ، فتتشوش عليهم قلوبهم ، وكان شيخ شيوخنا سيدى على الجمل العمراني رضي الله عنه يقول : جزاهم الله عنا خيرا ؛ رفعوا لنا علم الشريعة ، نحن نغرق فى البحر ، ثم نرفع رأسنا فنرى العلم قائما ، ثم نرجع إلى البحر. ه. بالمعنى ، والله تعالى أعلم.
ثم إن الهداية بيد الله ، قوم أقامهم فى الفرق ، وقوم هداهم إلى الجمع ، كما قال تعالى :
(... وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (٨٣))
يقول الحق جل جلاله : لو لا أن الله تفضل عليكم ورحمكم بنبي الرحمة ، وأنقذكم من متابعة الشيطان وعبادة الأوثان ، لبقيتم على كفركم وضلالكم ، ولا تبعتم الشيطان فيما يأمركم به من الكفر والعصيان ، إلا قليلا ممن اهتدى قبل بعثته ، كقس بن ساعدة ، وزيد بن نفيل ، وورقة بن نوفل ، رزقهم الله كمال العقل ؛ فنظروا وتكفروا بعقولهم ؛ فوجدوا الله واعتزلوا ما كان يعبد آباؤهم وإخوانهم. أما قس فاعتزل قومه ، وعبد الله وحده ، وكان يخطب على الناس ويأمرهم بالتوحيد ، ويعيب عليهم عبادة الأصنام. وعاش سبعمائة عام. وأما زيد فتعلق بالحنيفية ، دين إبراهيم ، حتى مات قبل البعثة. وأما ورقة ـ فأخذ بدين النصرانية التي لم تغيّر ، وأدرك أول البعثة ، وآمن بالرسول قبل أن يؤمر بالإنذار. قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «رأيته فى الجنة عليه ثياب خضر». والله تعالى أعلم.
الإشارة : لو لا فضل الله عليكم بأن بعث لكم من يدلكم على الله ويعرفكم بالله ، ورحمته بأن أخرجكم من ضيق الفرق ، إلى فضاء الجمع ، لا تبعتم الفرق علما وعملا ، لكن الله تعالى بفضله ورحمته غيبكم عن شهود الفرق بشهود الملك الحق. إلا فرقا قليلا تقيمون به رسم العبودية ، وتظهرون به الآداب مع الربوبية.