يقول الحق جل جلاله : فى ذم المنافقين أو ضعفة المسلمين : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ) أي : خبر عن السرايا الذين توجهوا للغزو ، من نصر وغنيمة وأمن أو خوف ، وقتل وهزيمة ، (أَذاعُوا بِهِ) أي : تحدثوا به ، وأشهروه ، وأرجفوا به قبل أن يصل إلى الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وأكابر الصحابة ، الذين هم أولو الأمر وأهل البصائر ، فيعرفون كيف يتحدثون به.
ولو ردوا ذلك (إِلَى الرَّسُولِ) وأخبروه به سرا ، أو سكتوا حتى يصل إليه ، أو يردوه (إِلى أُولِي الْأَمْرِ) من أكابر الصحابة ، لعلمه الذين يسخرجونه إلى الناس (مِنْهُمْ) ، فينقلونه على وجهه ، ويعرفون كيف يتحدثون به من غير إرجاف ولا تخويف ، أو (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ) وهم أولو الأمر أولا ، ثم يعلم الناس ، فلا يكون فيه إرجاف ولا سوء أدب. أو : وإذا جاءهم أمر من وحي السماء : من تخويف أو تأمين ، أذاعوا به قبل أن يظهره الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، ولو سكتوا وردوا ذلك إلى الرسول حتى يتحدث به للناس ، ويظهره أولو الأمر من أكابر أصحابه ، لعلمه الذين يستخرجون ذلك الوحى من أصله ، وهو الرسول ـ عليه الصلاة السلام ـ وأكابر أصحابه ، كما فعل عمر رضي الله عنه : إذ سمع أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم طلق نساءه ، فدخل عليه فقال : أطلقت نساءك؟ قال : «لا» ، فقام على باب المسجد ، فقال : إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لم يطلق نساءه ، فأنزل الله هذه القصة ، قال : وأنا الذي استنبطته. والله تعالى أعلم.
الإشارة : قالت الحكماء : قلوب الأحرار قبور الأسرار ، وهذه الخصلة التي ذمّها الله تعالى توجد فى كثير من العوام ؛ مهما سمعوا خبرا : خيرا أو شرا ، بادروا إلى إفشائه ، ولا سيما إذا سمعوه على أهل النسبة أو أهل الخصوصية ، وقد توجد فى بعض الفقراء ، وهى غفلة ونوع من الفضول ، فالفقير الصادق غائب عن أخبار الزمان وأهله ، وقد ترك الناس وما هم فيه ، وقد تغلب عليه الغيبة فى الله حتى تغيب عنه الأيام ، وأما الفقير الذي يتسمع الأخبار ويبحث عنها فلا نسبة له فى الفقر ، إلا اسم بلا مسمى ، وقد ترى بعض الفقراء ، يبلّغ مساوئ إخوانه إلى المشايخ ، وهو سبب الطرد ، والعياذ بالله. وقد كان صلىاللهعليهوسلم يقول : «لا تبلغونى مساوئ أصحابى» (١) ؛ لأن ذلك يسؤوهم ، والخير كله فى إدخال السرور على قلوب المشايخ.
وتنسحب الآية على من يفشى أسرار الربوبية ، ويطلع الفقراء على الحقيقة ، ولو ردوا ذلك إلى شيخهم حتى يكون هو الذي يطلعهم لكان أحسن ، لأن الحقيقة إذا أخذت من الشيخ كان فيها سر كبير ، بخلاف ما إذا أخذت من غيره ، إلّا إذا كان مأذونا له فى ذلك فكأنه هو. والله تعالى أعلم.
__________________
(١) الحديث لم أقف عليه بهذا اللفظ ، وورد عنه صلىاللهعليهوسلم : «لا يبلغنى أحد من أصحابى عن أحد شيئا ؛ فإنى أحب أن أخرج إليكم سليم الصدر».
أخرجه أبو داود فى (الأدب ، باب رفع الحديث من المجلس) والترمذي فى (المناقب ، باب فضل أزواج النبي) من حديث ابن مسعود.