انقادوا طائعين ، وأهل الأرض منهم من انقاد طوعا بالنظر واتباع الحجة أو بغيرها ، ومنهم من انقاد كرها أو بمعاينة ما يلجئ إلى الإسلام ؛ كنتق الجبل وإدراك الغرق والإشراف على الموت ، أو : «طوعا» كالملائكة والمؤمنين ، فإنهم انقادوا لما يراد منهم طوعا ، (وكرها) كالكفار فانقادوا لما يراد منهم كرها ، وكلّ إليه راجعون ، لا يخرج عن دائرة حكمه ، أو راجعون إليه بالبعث والنشور. والله تعالى أعلم.
الإشارة : اعلم أن الدين الحقيقي هو الانقياد إلى الله فى الظاهر والباطن ، أما الانقياد إلى الله فى الظاهر فيكون بامتثال أمره واجتناب نهيه ، وأما الانقياد إلى الله فى الباطن فيكون بالرضى بحكمه والاستسلام لقهره. فكل من قصّر فى الانقياد فى الظاهر ، أو تسخط من الأحكام الجلالية فى الباطن ، فقد خرج عن كمال الدين ، فيقال له : أفغير دين الله تبغون وقد انقاد له (من فى السموات والأرض طوعا وكرها) ، فإما أن تنقاد طوعا أو ترجع إليه كرها. وفى بعض الآثار يقول الله تبارك وتعالى : «من لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلائي ، فليخرج من تحت سمائى ، وليتخذ ربّا سواى».
وسبب تبرّم القلب عن نزول الأحكام القهرية مرضه وضعف نور يقينه ، فكل من استنكف عن صحبة الطبيب ، فله من هذا العتاب حظ ونصيب ، فالأولياء حجة الله على العلماء ، والعلماء حجة الله على العوام ، فمن لم يستقم ظاهره عوتب على تفريطه فى صحبة العلماء ، ومن لم يستقم باطنه عاتبه الله تعالى على ترك صحبة الأولياء ، أعنى العارفين. وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ثم بيّن الحق ـ تعالى ـ حقيقة الإيمان والإسلام الذي يجب اتباعه على جميع الأنام ، فقال :
(قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤))
قلت : (أنزل) : يتعدى بإلى ؛ لأنه ينتهى إلى الرسل ، ويتعدى بعلى ، لأنه يأتى من ناحية العلو والاستعلاء ، وفرّق بعضهم بين التعبير هنا بعلى وفى البقرة بإلى ، فقال : لأن الخطاب هنا للرسول بالخصوص ، وقد أنزل عليه الوحى مباشرة ، وهناك الخطاب للمسلمين ، وإنما أنزل الوحى متوجها إليهم بالواسطة ، ولم يكن عليهم بالمباشرة. والله تعالى أعلم.