يقول الحق جل جلاله : واذكر (إِذْ) أخذنا الميثاق على النبيين من لدن آدم عليهالسلام إلى عيسى عليهالسلام. وقلنا لهم : والله للذى خصصتكم به (مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ) ، ثم إن ظهر رسول (مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) أنتم وأممكم ، أو : لأجل الذي خصصتكم به مما تقدم لئن أدركتم محمدا لتؤمنن به ولتنصرنه. قال سيدنا على ـ كرم الله وجهه ـ : (لم يبعث الله نبيا ، آدم ومن بعده ، إلا أخذ عليه العهد فى محمد ، وأمره بأخذ العهد على قومه ليؤمننّ به ، ولئن بعث وهم أحياء لينصرنّه).
(قالَ) الحق جل جلاله لمن أخذ عليهم العهد : (أَأَقْرَرْتُمْ) بذلك وقبلتموه ، (وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي) أي : عهدى وميثاقى؟ (قالُوا أَقْرَرْنا) وقبلنا ، (قالَ فَاشْهَدُوا) على أنفسكم ، أو ليشهد بعضكم على بعض بالإقرار ، أو فاشهدوا يا ملائكتى عليهم ، (وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) ، وفيه توكيد وتحذير عظيم ، (فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ) الإقرار والشهادة ، وأعرض عن الإيمان به ، ونصره بعد ظهوره ، (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) الخارجون عن الإيمان المتمردون فى الكفران.
الإشارة : كما أخذ الله العهد على الأنبياء وأممهم فى الإيمان به عليه الصلاة السلام ، أخذ الميثاق على العلماء وأتباعهم من العامة ، لئن أدركوا وليا من أولياء الله ، حاملا لواء الحقيقة ، مصدقا لما معهم من الشريعة ، ليؤمنن به ولينصرنه ، فمن تولى وأعرض عن الإذعان إليهم فأولئك هم الفاسقون الخارجون عن دائرة الولاية ، محرومون من سابق العناية ، فإن الحقيقة إنما هى لب الشريعة وخلاصتها ، فإنما مثل الحقيقة والشريعة كالروح للجسد ، فالشريعة كالجسد ، والحقيقة كالروح ، فالشريعة بلا حقيقة جسد بلا روح ، والحقيقة بلا شريعة روح بلا جسد ، فلا قيام لهذا إلا بهذا ، فمن تشرّع ولم يتحقّق فقد تفسق ، ومن تحقق ولم يتشرع فقد تزندق ، ومن جمع بينهما فقد تحقق ، ومن خرج عنهما فقد خرج عن دين الله وطلب غيره. وإليه توجه الإنكار بقوله :
(أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣))
قلت : (أفغير) : مفعول مقدم ، و (يبغون) : معطوف على محذوف ، أي : أتتولون فتبغون غير دين الله ، وقدم المعمول ؛ لأنه المقصود بالإنكار ، و (طوعا وكرها) : حالان ، أي : طائعين أو كارهين.
يقول الحق جل جلاله للنصارى واليهود ، لمّا اختصموا إلى النبي صلىاللهعليهوسلم ، وادعوا أن كل واحد على دين إبراهيم ، فقال لهم ـ عليه الصلاة والسلام : «كلاكما برىء من دينه ، وأنا على دينه ، فخذوا به» ، فغضبوا ، وقالوا : والله لا نرضى بحكمك ولا نأخذ بدينك ، فقال لهم الحق جل جلاله ـ منكرا عليهم ـ : أفتبغون غير دين الله الذي ارتضاه لخليله وحبيبه ، وقد انقاد له تعالى (مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) طائعين ومكرهين ، فأهل السموات