ثم قالت حنة أم مريم : (وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ) أي : أحصنها بك (وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) أي : المرجوم بالشهب ، أو المطرود ، وفى الحديث : «ما من مولود يولد إلّا والشّيطان يمسّه حين يولد فيستهلّ من مسّه ، إلّا مريم وابنها». ومعناه : أن الشيطان يطمع فى إغواء كل مولود ، بحيث يتأثر به ، إلا مريم وابنها لمكان الاستعاذة ، قلت : وكذا الأنبياء كلهم ، لا يمسهم لمكان العصمة. والله أعلم.
(فَتَقَبَّلَها رَبُّها) أي : رضيها فى النذر مكان الذكر ، (بِقَبُولٍ حَسَنٍ) أي : بوجه حسن ، وهو إقامتها مقام الذكر ، وتسلمها للخدمة عقب ولادتها قبل أن تكبر وتصلح للسّدانة (١) ، روى : أن حنة لما ولدتها لفّتها فى خرقة ، وحملتها إلى المسجد ، ووضعتها عند الأحبار ، وقالت : دونكم هذه النذيرة ، فتنافسوا فيها ، لأنها كانت ابنة إمامهم ، وصاحب قربانهم ، فإن (بنى ماثان) كانت رؤوس بنى إسرائيل وملوكهم ، فقال زكريا : أنا أحق بها ، عندى خالتها ، فأبوا إلا القرعة ، وكانوا سبعة وعشرين ، فانطلقوا إلى نهر ، فألقوا فيه أقلامهم ، فطفا قلم زكريا ـ أي : علا ـ على وجه الماء ، ورسبت أقلامهم ، فأخذها زكريا.
(وَأَنْبَتَها) الله (نَباتاً حَسَناً) أي : رباها تربية حسنة ، فكانت تشب فى اليوم ما يشب المولود فى العام ، (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) أي : ضمها إليه وقام بأمرها. وقرأ عاصم ـ فى رواية ابن عياش ـ بشدّ الفاء ، أي : وكفّلها الله زكريا ، أي : جعله كافلا لها وحاضنا. روى : أنه لما ضمها إليه بنى لها بيتا ، واسترضع لها ، فلما بلغت ، بنى لها محرابا فى المسجد ، وجعل بابه فى وسطه لا يرقى إليها إلا بسلم ، ولا يصعد إليها غيره ، وكان يأتيها بطعامها وشرابها كل يوم ، وكان إذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب.
(كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ) ؛ ليأتيها بطعامها ، (وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) أي : فاكهة فى غير حينها ، يجد فاكهة الشتاء فى الصيف ، وبالعكس ، (قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا) أي : من أين لك هذا الرزق الآتي فى غير أوانه ، والأبواب مغلقة عليك؟ (قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) فلا يستبعد ، قيل : تكلمت صغيرة ، وقيل : لم ترضع ثديا قط ، خلاف ما تقدم ، وكان رزقها ينزل عليها من الجنة.
ثم قالت : (إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي : بغير تقدير ، أو بغير استحقاق تفضلا منه ، وقوله : (كلما) : يقتضى التكرار ، وفيه إشارة إلى أن زكريا لم يذر تعهّدها ، ولم يعتمد على ما كان يجد عندها ، بل كان يتفقد حالها كل وقت ، لأن الكرامات للأولياء ليس مما يجب أن تدوم قطعا ، بل يجوز أن يظهر ذلك عليهم دائما وألا يظهر ، فما كان زكريا معتمدا على ذلك ، فيترك تفقد حالها ، ثم كان يجدد السؤال بقوله : (يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا) ، لجواز أن يكون الذي هو اليوم لا على الوجه الذي كان بالأمس ، فإنه لا واجب على الله ـ سبحانه ـ. قاله القشيري.
__________________
(١) السدانة : مصدر بمعنى الخدمة ، والسادن : الخادم.