والنصر على الأعداء فى كل أين ، وأنزع الملك من يد عدونا ، وانقله إلينا وإلى من تبعنا إلى يوم الدين. قال قتادة : (ذكر لنا أن النبي صلىاللهعليهوسلم سأل ربه أن يجعل ملك فارس والروم فى أمته ، فأنزل الله تعالى هذه الآية).
(وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ) بالإيمان والطاعة (وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) بالكفر والمعصية ، أو تعز من تشاء بالمعرفة ، وتذل من تشاء بالفكرة ، أو تعز من تشاء بالقناعة والورع ، وتذل من تشاء بالحرص والطمع ، أو تعز من تشاء بالتوفيق والإذعان ، وتذل من تشاء بالكسل والخذلان ، (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) كله ، فأعطنا من خيرك الجزيل ، وأجرنا من الشر الوبيل ، فالأمور كلها بيدك.
قال البيضاوي : ذكر الخير وحده ؛ لأنه المقضى بالذات ، والشر مقتضى بالعرض ؛ إذ لا يوجد شر جزئى ما لم يتضمن خيرا كليا. أو لمراعاة الأدب فى الخطاب ، أو لأن الكلام وقع فيه ، إذ روى أنه عليه الصلاة والسلام ـ لمّا خطّ الخندق ، وقطع لكل عشرة أربعين ذراعا ، وأخذوا يحفرون ، فظهر فيه صخرة عظيمة لم تعمل فيها المعاول ، فوجّهوا سلمان إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم يخبره ، فجاء عليه الصلاة والسلام ، فأخذ المعول منه ، فضرب به ضربة صدعها ، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها (١) ، لكأن مصباحا فى جوف بيت مظلم ، فكبر ، وكبّر معه المسلمون ، وقال : أضاءت لى منها قصور الحيرة ، كأنها أنياب الكلاب ، ثم ضرب الثانية ، فقال : أضاءت لى منها القصور الحمر من أرض الروم ، ثم ضرب الثالثة ، فقال : أضاءت لى منها قصور صنعاء ، وأخبرنى جبريل أنّ أمّتى ظاهرة على كلّها ، فأبشروا ، فقال المنافقون : ألا تعجبون! يمنيكم ويعدكم الباطل ، ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ، وأنّها تفتح لكم ، وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق (٢) فنزلت ، أي : الآية. ونبه على أن الشر أيضا بيده بقوله : (إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). ه.
ثم استدل على نفوذ قدرته بقوله : (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) أي : تدخل أحدهما فى الآخر بالتعقيب ، أو بالزيادة أو النقص ، فيولج الليل فى النهار ، إذا طال النهار حتى يكون خمس عشرة ساعة ، وفى الليل تسع ، ويولج النهار فى الليل ، إذا طال الليل كذلك ، وفيه دلالة على أن من قدر على ذلك قدر على معاقبة العز بالذل ، والملك بنزعه. (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) ؛ كالحيوانات من النّطف ، وبالعكس ، والنباتات من الحبوب ، وبالعكس ، أو المؤمن من الكافر والعالم من الجاهل ، وبالعكس ، (وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ) من الأقوات والعلوم والأسرار ، (بِغَيْرِ حِسابٍ) ، ولا تقدير ولا حصر. اللهم ارزقنا من ذلك الحظ الأوفر ، (إنك على كل شىء قدير).
__________________
(١) اللابة : الحرة ، وهى الحجارة السوداء ، ولابتيها : حرتان تكتنفان المدينة.
(٢) الفرق ـ بفتحتين ـ : الخوف.