«فرّ من المجذوم فرارك من الأسد» ، وقوله : «لا يورد ممرض على مصحّ» ، فهو محمول على حسم المادة ، وسد الذريعة ؛ لئلا يحدث للمخالط شىء من ذلك ، فيظنه بسبب المخالطة ، فيثبت العدوى التي نفاها الشارع ، هذا المختار فى الجمع بين الحديثين. والله تعالى أعلم. وإنما أطلت فى المسألة لمسّ الحاجة ؛ لأن التأليف وقع فى زمن الوباء ، حفظنا الله من وبالها.
وقيل : إن الذين خرجوا من ديارهم قوم من بنى إسرائيل ، أمروا بالجهاد ، فخافوا الموت بالقتل فى الجهاد ، فخرجوا من ديارهم فرارا من ذلك ، فأماتهم الله ؛ ليعرفهم أنهم لا ينجيهم من الموت شىء ، ثم أحياهم ؛ وأمرهم بالجهاد ، بقوله : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) الآية. وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) ؛ حيث أنزل بهم رحمته ، ففروا منها ، ولم يعاقبهم ، حيث أحياهم بعد موتهم ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) إذ لا يفهم النعم فى طى النقم إلا القليل ، فيشكروا الله فى السراء والضراء.
الإشارة : ألم تر أيها السامع إلى الذين خرجوا من ديار عوائدهم وأوطان شهواتهم ، وهم جماعة أهل التجريد ، القاصدين إلى صفاء التوحيد ، والغرق فى بحر التفريد ، حذرا من موت أرواحهم بالجهل والفرق ، فاصطفاهم الله لحضرته ، وجذبهم إلى مشاهدة ذاته ، فقال لهم الله : موتوا عن حظوظكم ، وغيبوا عن وجودكم ، فلما ماتوا عن حظوظهم ، وغابوا عن وجودهم ، أحياهم الله بالعلم والمعرفة ، (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) حيث فتح لهم باب السلوك ، وهيأهم لمعرفة ملك الملوك ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) حيث تجلى لهم ، وعرّفهم به ، وهم لا يشعرون ، إلا من فتح الله بصيرتهم ، وقليل ما هم.
ثم حرّض الحق تعالى المؤمنين على الجهاد ، فقال :
(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤))
يقول الحق جل جلاله : (وَقاتِلُوا) الكفار (فِي سَبِيلِ اللهِ) وإعلاء كلمة الله حتى يكون الدين كله لله ، (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لأقوالكم ودعائكم ، (عَلِيمٌ) بنياتكم وإخلاصكم ، فيجازى المخلصين ، ويحرم المخلطين.
الإشارة : وجاهدوا نفوسكم فى طريق الوصول إلى الله ، وأديموا السير إلى حضرة الله ، فحضرة القدوس محرمة على أهل النفوس. قال الششترى :
إن ترد وصلنا فموتك شرط |
|
لا ينال الوصال من فيه فضله |