ومجاهدة النفس هو تحميلها ما يثقل عليها ، وبعدها مما يخف عليها ، حتى لا يثقل عليها شىء ، ولا تشره* إلى شىء ، بل يكون هواها ما يقضيه عليها مولاها. قيل لبعضهم : [ما تشتهى؟ قال : ما يقضى الله]. واعلموا أيها السائرون أن الله سميع لأذكاركم ، عليم بإخلاصكم ومقاصدكم.
ولما كان الجهاد يحتاج إلى مؤنة التجهيز ، وليس كل الناس يقدر على ذلك ، رغّب الحق تعالى الأقوياء بالإنفاق على الفقراء ، فقال :
(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥))
قلت : القرض هو القطع ، أطلق على السلف ؛ لأن المقرض يقطع قطعة من ماله ويدفعها للمستلف ، والمراد بها الصدقة ؛ لأن المتصدق يدفع الصدقة فيردها الحق تعالى له بضعف أمثالها ؛ فأشبهت القرض فى مطلق الرد.
يقول الحق جل جلاله : من هذا الذي يعامل الله تعالى ويقرضه (قَرْضاً حَسَناً) بأن يتصدق على عباده صدقة حسنة بنية خالصة ، فيكثرها الله تعالى له (أَضْعافاً كَثِيرَةً) ؛ بسبعمائة إلى ما لا نهاية له ، ولا يحمله خوف الفقر على ترك الصدقة ؛ فإن الله تعالى يقبض الرزق عمن يشاء ولو قل إعطاؤه ، ويبسط الرزق على من يشاء ولو كثر إعطاؤه ، بل يقبض على من قبض يده شحا وبخلا ، ويبسط على من بسط يده عطاء وبذلا ، يقول : «يا ابن آدم أنفق أنفق عليك» ، «أنفق ولا تخش من ذى العرش إقلالا».
ونسبة القرض إليه تعالى ترغيب وتقريب للأفهام ، كما قال فى الحديث القدسي : «يقول الله تعالى يوم القيامة : يا ابن آدم ، مرضت فلم تعدنى ، قال : يا ربّ! كيف أعودك وأنت ربّ العالمين؟ قال : أما علمت أنّ عبدى فلانا مرض فلم تعده. أما إنك لو عدته لوجدتنى عنده. يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمنى. قال : يا ربّ! كيف أطعمك وأنت ربّ العالمين؟ قال : أما علمت أنّه استطعمك عبدى فلان فلم تطعمه؟ أما علمت أنّك لو أطعمته لوجدت ذلك عندى. يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقنى. قال : يا ربّ كيف أسقيك وأنت ربّ العالمين؟ قال : استسقاك عبدى فلان فلم تسقه. أما علمت أنّك لو سقيته لوجدت ذلك عندى».
الإشارة : من هذا الذي يقطع قلبه عن حب الدارين ، ويرفع همته عن الكونين ، فإن الله (يضاعفه له أضعافا كثيرة) بأن يملّكه الوجود بما فيه ، «أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون ، فإذا شهدت المكون كانت الأكوان