قلت : المشهور فى اللغة أن أحصر الرباعي : بالمرض ، وحصر الثلاثي : بالعدو ، وقيل : بالعكس ، وقيل : هما سواء. و (ما استيسر) : خبر أو مبتدأ ، أي : فالواجب ما استيسر ، أو : فعليه ما استيسر.
يقول الحق جل جلاله : (وَأَتِمُّوا الْحَجَ) الذي دخلتم فيه ، (وَالْعُمْرَةَ) وجوبا كالصلاة والصوم ، ويكون ذلك (لِلَّهِ) لا رياء ولا سمعة ، وإنما خص الحج والعمرة بالحض على الإخلاص ، لما يسرع إليهما من الخلل أكثر من غيرهما ، فمن أفسدهما وجب عليه قضاؤهما ، (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) ومنعتم من إتمامهما فتحللوا منهما ، وعليكم (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) ، وذلك شاة (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ) أي : لا تتحللوا (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) ، أي : حيث يحل ذبحه ، وهو محل الإحصار عند الشافعي ، فيذبح فيه بنية التحلل ويفرق ، ومنى أو مكة عند مالك ، فيرسله فإذا تحقق أنه وصل وذبح حل وحلق.
ويحرم على المحرم إزالة الشعث ، ولبس المخيط بالعضو ، فمن كان (مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً) صداع أو نحوه ، فحلق رأسه ، أو لبس ثيابه ، فعليه فدية (مِنْ صِيامٍ) ثلاثة أيام ، (أَوْ صَدَقَةٍ) على ستة مساكين ، مدّان لكل مسكين ، (أَوْ نُسُكٍ) بشاة فأعلى ، فهو مخير بين الثلاثة. والله تعالى أعلم.
الإشارة : إذا عقد المريد مع ربه عقدة ، فالواجب عليه إتمامها حتى يجنى ثمرتها ، فإذا عقد عقدة المجاهدة فليجاهد نفسه حتى يجنى ثمرتها ، وهى المشاهدة ، وإذا عقد مع الشيخ عقدة الصحبة ، فليلزم خدمته حتى يدخله إلى بيت الحضرة ، ويشهد له بالترشيد. وهكذا كل من عقد مع الله عقدة يجب عليه إتمامها ، فإن أحصر ومنع من إتمامها فليفعل ما استيسر من ذبح نفسه وحط رأسه ، و (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) ، ولا ينبغى أن يستعجل الفتح قبل إبّانه ، فلعلّه يعاقب بحرمانه ، فكم من مريد طلب من شيخه أن يطلعه على سر الربوبية قبل بلوغ محله ، فكان ذلك سبب عطبه ، فيقال له : ولا تحلق رأسك من شهود السوي حتى يبلغ هدى نفسك محله فيذبح ، فإذا ذبحت النفس وأجهز عليها حلق رأسه حينئذ من شهود السّوى ، وفى ذلك يقول الششترى رضي الله عنه :
إن ترد وصلنا فموتك شرط |
|
لا ينال الوصال من فيه فضله |
فمن كان مريضا بضعف عزمه ، أو به أذى بعدم نهوض حاله ، بحيث لم تسعفه المقادير فى مجاهدة نفسه ، فليشتغل بالنسك الظاهر من صيام أو صدقة أو قراءة أو غير ذلك ، حتى يمنّ عليه العليم الحكيم. وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.